حققت البرازيل خلال عهدي الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (2003-2011)، طفرة اقتصادية نوعية، إلا أن ارتفاع مستويات الفساد خصوصاً عام 2014، خلال فترة حكم الرئيس ديلما روسيف (2011-2016)، وتفاقم الأوضاع خلال عهد الرئيس ميشيل تامر (2016-2018) أنتج كبوة اقتصادية كبرى وفراغ أمني خطير وارتفاع ملحوظ في معدل الجريمة. فجاء صعود اليمين، لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن وثلاثة عهود متواصلة من حكم يسار، بعد فوز زعيمهم جايير بولسونارو المنتمي إلى الحزب الليبرالي الاجتماعي في انتخابات الرئاسة. وفاز بولسونارو بنسبة بلغت 55.1 % من الأصوات، بعد أن ألحق هزيمة مدوية بمنافسه فرناندو حداد مرشح حزب العمال اليساري، والذي تهاوى تحت وطأة أكبر فضيحة فساد عرفتها البلاد. وتعكس نتيجة الانتخابات مدى التغير الذي لحق بالمجتمع البرازيلي وجمهور ناخبيه، والذي لم يسجل تراجعاً لمكانة اليسار فقط بل تخطاه إلى تراجع مكانة أحزاب يمين الوسط التقليدية أيضاً.
لم يكتف بولسونارو بالتركيز على الكبوات التي لحقت ببلاده في ظل حكم اليسار فقط ليشحن حملاته الانتخابية بوقود الانتصار، بل لون السياسات التي تبناها خلال تلك الحملات بلون متشدد ومتباين عن سياسات اليسار.ذلك التشدد الذي جعل المراقبون يشبهونه بتشدد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب. ويحمل الرئيس البرازيلي الجديد نفس مواقف ترامب العنصرية ضد السود والنساء، هذا بالإضافة إلى مواقفه المعادية للفقراء والأقليات والمثليين، والتي لم يستطع إخفاءها سواء خلال حملته الانتخابية الرئاسية أو خلال فترات ولاياته السبع المتتالية في البرلمان عن مدينة ريو دي جانيرو والتي بدأت منذ عام 1991. لم يخف الرئيس البرازيلي المنتخب حديثاً إعجابه بترامب فقط، بل اعتبر الولايات المتحدة نموذجاً قابلاً للتطبيق. فرفع بولسونارو شعاراً يفيد بإعادة إحياء البرازيل الكبرى، تماماً كالشعار الذي رفعه ترامب خلال حملته الانتخابية.
نجحت البرازيل ما بين عامي 2003 ـ 2012 بمضاعفة صادراتها خصوصاً من النفط وحبوب الصويا، بعد موجة ارتفاع الأسعار العالمية، مثلها مثل باقي دول أمريكا اللاتينية الأخرى، فتطور الاقتصاد البرازيلي وارتفعت معدلات الإنتاجية والناتج القومي ومستوى المعيشة. إلا أن انخفاض أسعار السلع الرئيسية بعد ذلك، وسوء الإدارة الاقتصادية في البلاد أدت إلى انخفاض النمو الاقتصادي وتراجع نفقات الحكومة في المجال الاجتماعي، لحقه تصاعد للغضب الشعبي ضد الحكومة اليسارية.
لم يكن الانهيار الاقتصادي في البلاد السبب الوحيد في إزاحة اليسار عن الحكم، بل كان لفضائح قضايا الفساد الصدى الأكبر في ذلك الانزلاق السياسي، خصوصاً في ظل تورط قياديين يساريين من الحكومة والبرلمان وصلت حد تورط الرئيس البرازيلي السابق نفسه وأسرته وكذلك تورط شركات نفط رئيسية في البلاد. فدخل اليسار إلى المعركة الانتخابية ضعيف مشتت القوى، على عكس اليمين الذي اكتسح الساحة الانتخابية بسياسات اقتصادية وسياسية ملهمة.
ركزت دعاية بولسونارو على التشبث بالعادات والتقاليد ومحاربة الفساد وتحرير البلاد من الاشتراكية، ودعا إلى تشكيل حكومة فولاذية تستطيع أن تنقذ البرازيل من الأزمة الاقتصادية المستعصية والفساد المنتشرٍ. ركز بولسونارو الكاثوليكي والمرتبط بالكنائس المعمدانية والضيف الدائم على النادي العبري في ريو دي جانيرو على البعد الديني، مستغلاً النزوع نحو المحافظة والتزمت الديني الذي يسود في البرازيل، واستخدام شعار "البرازيل فوق كل شيء والله فوق الجميع". كما سيطر الطابع الديني على خطاباته، ووعد بالالتزام بأحكام الكتاب المقدس والدستور معاً في تطبيق القانون، فحظي بدعم شريحة واسعة من الإنجيليين، تماماً كالدعم الذي حصده الرئيس الأمريكي الحالي في حملته الانتخابية.
ولم يخف بولسونارو، والذي خدم كضابط في الجيش، خلال حملته الانتخابية إبداء إعجابه بحقبة النظام العسكري السابق في بلاده، والتي تميزت بسيادة الأمن، وسادت ما بين عامي 1964-1985، فقدم بذلك وبشكل غير مباشر للناخب البرازيلي سيناريو يضع حلولاً للأوضاع الأمنية المتردية في البلاد. فوعد بتفعيل الرقابة الأمنية لتخفيض معدلات الجريمة، مع منح القوات الأمنية في الجيش والشرطة حصانة واسعة تعفيهم من المساءلة القانونية أثناء أداء مهامهم. كما وعد الرئيس الجديد بتعديل قانون حق حمل السلاح ليصبح في متناول الجميع، فحصد بولسونارو دعم تجار السلاح في بلاده، تماماً كما حصدها ترامب من قبله لتبنيه نفس السياسة. ورغم تلك المواقف المتطرفة، حرص الرئيس البرازيلي الجديد بعد صعوده إلى الحكم على تأكيد التزامه بالدستور والديمقراطية والحريات. واهتم بولسونارو بوسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي، فحصد متابعة الملايين، ووظف محاولة اغتياله وتبعات إصابته ليكسب تعاطف الناخبين. ويفضل بولسونارو استخدام هذا النوع من وسائل الاتصال فينشر تصريحاته، تماماً كما يفعل نظيره الأميركي الحالي، الذي يعاني أيضاً هشاشة في علاقاته مع وسائل الإعلام التقليدية.
وتصاعدت وتيرة الاحتجاجات بعد فوز بولسونارو خصوصاً في أوساط أنصار اليسار. وليس من المتوقع أن يحرز الرئيس الجديد اختراقاً سريعاً في حل معضلات البلاد، بل قد تتسبب سياساته بمزيد من التعقيدات السياسية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي وذلك لسببين، الأول يتعلق بواقع النظام السياسي البرازيلي الحالي وطبيعة شخصية الرئيس الجديد وتوجهاته، بينما يعود السبب الثاني إلى محدودية خبراته السياسية المحلية والدولية، وعمومية وسطحية طروحاته السياسية والاقتصادية والتي قدمها لرأب صدع البلاد. فحسب الدستور البرازيلي الذي أقر بعد انتهاء عهد الاستبداد في البلاد عام 1988، تتطلب فعالية النظام السياسي اللامركزي الحالي في البرازيل، والقائم على أساس نظام رئاسي ائتلافي، إجراء مفاوضات مستمرة مع البرلمان، والحاجة إلى داعمين وموالين داخله لتمرير القرارات السياسية الهامة. ويبدو ذلك الأمر غاية في الصعوبة بالنسبة للرئيس الحالي في ظل ضعف مكانة حزبه السياسية في البرلمان ومجلس الشيوخ وتفوق المعارضة، وفي ظل تعديلات دستورية تحدد سقف النفقات المالية.
كما أن طبيعة النظام السياسي البرازيلي القائم على أساس القضاء المستقل والقوات المسلحة المسيسة، يعقد إمكانية التحرك الحر والقرارات الجريئة للرئيس الجديد. هذا بالإضافة إلى أن تعدد وتنوع النخب السياسية الشعبية، والتي بدأت تتبلور منذ عام 2013، لا يضمن بقاء التحالف الداعم للرئيس الجديد لمدة طويلة، فهي لم تضمن ذلك لمن سبقوه. وقد تشكل تلك العوامل مجتمعة تدشين نظام سياسي استبدادي في البرازيل، قائم على تقويض المعارضة وانتهاك حقوق الأقليات، وذلك للطبيعة العسكرية وللشخصية العنيفة التي يتمتع بها الرئيس المنتخب الجديد، ناهيك أيضاً عن امتلاكه نوعاً من دعم المؤسسة العسكرية، يأتي ذلك رغم تأكيداته النافية لمثل ذلك التوجه.
وتتفاقم المعضلات أمام الرئيس الجديد خصوصاً تلك المتعلقة بالأزمات الاقتصادية، حيث تتطلع الإدارة الجديدة لحلها عبر تغيير جذري للنظام الاقتصادي في البلاد باتجاه الليبرالية، وهو ليس بالأمر اليسير آنياً. كما يتصاعد إلى السطح القلق الشعبي من التطهير الأيديولوجي داخل الإدارات العامة والقرارات الجدلية التي طالت الأقليات، وتوجهات الإدارة الجديدة لتقويض النظام التقاعدي الحالي. وجرى إصلاح نظام التقاعد في الحقبة السياسية الماضية، فقدم ضمانات سخية للمواطنين. ويسعى النظام الجديد لتقليص تلك الضمانات لتغطية ديون البلاد المتراكمة على حساب الموطن. كما تسعى الدولة لتعديل قانون الضرائب والخصخصة في سبيل تحقيق نفس الهدف، الأمر الذي قد ينبئ بانفجار شعبي متوقع.
ويشكل موقف بولسونارو من القضية البيئية مشكلة قابلة للتفاقم، وقد تتسبب في تهديد الأمن البيئي في المنطقة ككل. فلم يخف الرئيس الجديد رغبته بضم وزارة البيئة في إطار وزارة الزراعة والثروة الحيوانية والتموين، الأمر الذي يعكس استهتاره بقضية البيئة عموماً. كما لم يستبعد انسحاب بلاده من اتفاقية باريس المناخية الموقعة عام 2015، متيمناً بخطى سياسة الرئيس الأمريكي في هذه القضية.
كما يعد القلق مبرراً من سياسة بولسونارو التنموية والتي تقوم على قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، والتي تشبه إلى حد كبير القاعدة التي يتبناها الرئيس الأمريكي الحالي في تحقيق التنمية لبلاده. يأتي ذلك التخوف في ظل تحرك ملاك الأراضي والشركات البرازيلية ذات النفوذ مؤخراً للسعي لإزالة الغابات الاستوائية والتي تشكل أكبر الغابات على سطح الأرض. وتختزن تلك الغابات كميات هائلة من الكربون، ويهدد إزالتها الأمن البيئي في بلاد الأمازون بشكل خاص، كما تؤثر سلباً على مستوى الاحتباس الحراري العالمي عموماً.
ومن المنتظر أن تشكل سياسات بولسونارو على مستوى السياسة الخارجية تداعيات خطيرة أيضاً على المستويين الإقليمي والدولي، بعد أن جاءت سياساته متناقضة مع التوجهات السياسية لأسلافه، والتي حققت في حينه اختراقات بناءه في سياسات البرازيل الخارجية، خصوصاً بعد أن باتت البرازيل أحد القوى المركزية الإقليمية في القارة اللاتينية. فساهمت سياسة الرئيس السابق لولا دا سيلفافي ارتقاء السياسة الخارجية للبلاد. وتقوم تلك السياسة على أساس تسوية المنازعات بطرق سلمية، واحترام مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، والسعي لتحسين الأوضاع الداخلية من خلال تحقيق موقع متميز للبرازيل على المستوى الدولي، بتفعيل قوة البلاد الناعمة وبناء التحالفات الدبلوماسية، واعتماد إستراتيجية التفاوض والدبلوماسية متعددة الأطراف والمشاركة في المؤسسات والمنتديات الدولية.
ومالت سياسة البرازيل خلال عهد لولا داسيلفا نحو دعم نظام سياسي دولي متعدد الأقطاب تشكل فيه القوى الاقتصادية الناشئة مكانة قوية في وجه تمركز السلطة العالمية في يد قوة عظمى واحدة أو قوتين. ويفسر ذلك الموقف سياسة البرازيل السابقة الرافضة لأي تدخلات أميركية في سياساتها الداخلية، وتحقيق استقلالية سياسية واضحة عن السياسة الأمريكية.
واعترفت إدارة الرئيس لولا داسيلفا بحقوق الشعب الفلسطيني، وسعت لتقديم المساعدة له، كما اعترفت رسمياً بدولة فلسطين عام 2010، مشجعة دول أخرى في قارتها للحذو حذوها. كما طرحت مبادرة للمساعدة في الخروج من المأزق التفاوضي بين الفلسطينيين الإسرائيليين. وتضم البرازيل أكثر من عشرة ملايين مواطن من أصول عربية. لم تختلف سياسة الرئيس ديلما روسيف عن سياسة سلفه سواء على الصعيد الخارجي أو تجاه القضية الفلسطينية. ورغم مساعي الرئيس ميشيل تامر للاقتراب أكثر من الغرب في سياسته الخارجية، إلا أن سلوك إدارته الخارجي ومواقفه من القضية الفلسطينية لم يسجل تبايناً عن سابقيه.
لم يخف بولسونارورغبته التقرب من الولايات المتحدة وإسرائيل خلال حملته الانتخابية، فكانت الولايات المتحدة وإسرائيل من أوائل الدول المباركة لصعوده إلى السلطة. ولم تخالف توجهات سياسته الخارجية بعد نجاحه تلك الرغبة، فأعلن بعد تنصيبه توافق سياسة بلاده تماماً مع سياسة الولايات المتحدة. ورغم تعهداته بنقل سفارة بلاده إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإغلاق السفارة الفلسطينية في البرازيل، اقتداءً بالموقف الأمريكي، إلا أنه لم يقدم بعد على مثل هذه الخطوات. وتؤيد البرازيل الجديدة إسرائيل وسياساتها بشكل مطلق على حساب القضية الفلسطينية، كما يشكل اليهود في البرازيل ثاني أكبر طائفة في أمريكا اللاتينية، إلا أنه من الصعب أيضاً إغفال سياستها الاقتصادية التي تميل نحو الانتهازية لتحقيق التنمية الداخلية. إن ذلك يفسر استخدام الإدارة البرازيلية الجديدة لورقة نقل السفارة لمساومة دول عربية للحصول على مكاسب اقتصادية كبيرة، خصوصاً وأن البرازيل تعتمد على تلك الدول لاستيراد اللحم الحلال، والذي يكلف البرازيل حوالي مليار دولار سنوياً.
وبشكل عام تهدد توجهات السياسة الخارجية للرئيس البرازيلي الحالي بحدوث عدد من السيناريوهات المتوقعة، وجميعها لا تصب في مصلحة بلاده، وقد يكون أهمها:
• من المحتمل أن تشكل البرازيل منفذاً لاختراق الولايات المتحدة إلى ساحة أمريكا اللاتينية، الأمر الذي سيؤثر على علاقاتها مع دول الجوار ذات التوجه اليساري أو الدول الأوروبية التي تنافس الولايات المتحدة في هذه الساحة.
• من المحتمل أن يؤثّر توطيد العلاقات البرازيلية الأمريكية سلبياً على التكامل الاقتصادي الإقليمي لدول أميركا الجنوبية، والذي انتعش مع المد اليساري في القارة، والمتمثل بالتكتل الاقتصادي للسوق المشتركة لدول جنوب أميركا اللاتينية، لأن توطيد تلك العلاقات الثنائية (البرازيلية-الأمريكية) سيكون على الأرجح لصالح حماية المصالح الأمريكية الجيوستراتيجية.
• من المحتمل أن يؤثر تحالف البرازيل مع الولايات المتحدة على تحالفها في إطار تحالف بريكس، الأسرع نمواً على المستوى الاقتصادي العالمي، والذي يضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين.
• من المحتمل ظهور بؤر توتر بين البرازيل ودول الجوار، مع تخلي البرازيل عن سياستها السلمية وعدم تدخلها في السياسات الداخلية للدول الأخرى.
• من المحتمل أن تتأثر علاقة البرازيل سلباً مع دول عربية صديقة، في ظل علاقة بولسونارو الوثيقة بإسرائيل، وسياساته المتشددة تجاه الفلسطينيين.
واقرأ أيضاً:
هل سيستطيع الفلسطينيون مواجهة مؤامرات تصفية قضيتهم؟ / إعلان بلفور أكبر جرائم هذ العصر / التباس العلاقة بين المنظمة والسلطة