إن الأمراض النفسية المتواجدة لدى المرضى في المستشفيات العامة، والذين قد تم دخولهم بسبب عرض عضوي هو من إختصاص فرع مهم من الطب النفسي، هو Liaison Psychiatry والمتعارف على تسميته بطب النفس الارتباطي أو الاستشاري . وفكرة هذا الطب الاستشاري هي ارتداد حميد لتاريخ الطب القديم، حيث كان الطب من مكونات الفلسفة والتي تعنى بفهم الحياة ككل وتفسير ظواهرها ومعالجتها بكليتها. ولكن مدرسة العلم الشامل قد خسرت أنصارها خصوصاً في الطب في القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، بعد التأكيد على أهمية فهم الأمراض لا فهم المريض.
هذه النظرة التفصيلية أفقدت العلوم الطبية ردحاً من الزمن، قدرتها على رؤية المريض – الإنسان – مرتبطاً مع ظروفه وضغوطه المختلفة، فرحه وترحه، ثقافته وتعليمه بل وتاريخه وأصوله. وهكذا فإن أصاب “عدنان” ألم ، فالمهم ضمن هذا العزل الظالم هو ألم عدنان وليس عدنان صاحب الألم، وعلى نفس المنوال فإن “هدى” إذا شخصت بسرطان الثدي، فالتركيز إذاً ينصب على ثدي هدى لا هدى المريضة، إن هذا بلا شك هو قصر نظر وإجحاف لا علاقة له برسالة الطب السامية المنحازة أبداً لصالح المريض لا لصالح فضول معرفة المرض وحسب.
لقد بدأ النمو الحقيقي لهذا العلم الإرتباطي في الربع الثاني من القرن العشرين. ونقطة التحول جاءت بعد إطلاق مصطلح الأمراض النفسجسمية Psychosomatic Disorders في الثلاثينات من ذات القرن. وقد جاء هذا المصطلح بداية ليدافع عن فكرة أن الأمراض العضوية مؤكدة التشخيص كالضغط والربو مثلاً، هي بالأصل جاءت من أسباب نفسية واجتماعية. ولكن هذا التطرف “بالتسبيب الكامل” جاء ليأخذ بعد ذلك نظرة أكثر موضوعية قائلاً بمساهمة العوامل النفسية والاجتماعية في ظهور المرض أو استمراره أو زيادة أعراضه وشدته.
في التطبيق العملي، فإن طب النفس الاستشاري يحقق أسلوبه إما عن طريق وجود قسم نفسي متخصص في المستشفيات العامة أو بشكل استشارات نفسية يقدمها اختصاصي الطب النفسي عند الحاجة.
الأسلوب الأول : يتنامى بشكل كبير في الدول الغربية، ويتبنى الأسلوب الارتباطي في العمل، بينما تشكل الاستشارات الطريقة السائدة في بلادنا. إن أسلوب الطب الارتباطي، يحتم أن يعمل الطبيب النفسي ضمن فريق متكامل كحالة وجوده مع الفريق الجراحي في الحالات الجراحية، أو مع الفريق الباطني في الحالات الداخلية والباطنية وهكذا. هذا وتقع على الطبيب النفسي مهمة مساعدة الفريق للتعامل مع المشاكل والاضطرابات النفسية المرضية التي يواجهونها مع مرضاهم، بشكل يومي وذلك بحكم وجوده كعضوٍ أصيل في الفريق، وتأتي طريقة الاستشارات كطريقة منقوصة نسبياً لأن رأي الطبيب النفسي يؤخذ به عند الطلب، وربما لا يستعان به خصوصاً في بلادنا اللهم إذا فقد الطبيب من الاختصاص الآخر قدرته على السيطرة واضطر إلى اللجوء إلى خطة طوارئ ألا وهي استشارة الطبيب النفساني، وهذا هو واقع الحال للأسف.
فريق الطب النفسي الارتباطي أو الاستشاري يتراوح في حجمه. صحيح أن ما نراه شائعاً هو تكونه من شخص الطبيب النفساني إلا أن الوضع المثالي يحتم وجود فريق متكامل ومتناغم يشمل فيما يشمل – إضافة إلى رأسه الطبيب النفساني – الممرض النفساني، الباحث الاجتماعي والاختصاصي النفساني الإكلينيكي. وتقتضي الحاجة كثيراً أن يستعان بكـل أفراد الطاقم للتعامل والتقييم والمعالجة وإبداء الرأي.
ويأتي موقع السؤال التالي الآن : ماذا يفعل فريق الطب النفسي الاستشاري إذا طلب منه التدخل، ما هي مهامه وكيف يتعامل ؟ هذا السؤال يخص الطبيب النفسي، فهو هنا تقع عليه مهمتان أولهما تقييم الحالة، وثانيهما الاتصال وتبادل الرأي مع الطبيب المختص من الاختصاص الآخر ويجب أخذ النقاط التالية بعين الاهتمام : –
أ – حالة المريض الجسدية والعقاقير المتناولة والآثار الجانبية المترتبة عنها.
ب – رغبة المريض برؤية طبيب نفساني، إذ من الواجب أن يناقش هذا الأمر سابقاً مع طبيبه المشرف في حالة توافر القدرة لدى المريض على إعطاء إقرار بذلك. وإلا فإن الأمر يبقى بين يدي الطبيب المشرف وذوي المريض.
جـ – الاطلاع على سيرة المريض الطبية والجراحية. والانتباه إلى ملاحظات التمريض المتعلقة بالسلوك والأعراض البيولوجية كالشهية للطعام والنوم.
د – اتباع الطريقة الكلاسيكية المفصلة للتاريخ المرضي النفسي للمريض والفحص العقلي.
هـ – عدم الاعتماد على الفحص الجسدي الذي خضع له المريض سابقاً. فلا بد من الفحص السريري مترافقاً مع اهتمام خاص للجهاز العصبي.
و – أخذ معلومات أخرى من الأقارب شاملة للأرضية الاجتماعية والثقافية والشخصية للمريض.
ز – كتابة التقرير النفسي الاستشاري والتي ستدخل ضمن الملف الطبي للمريض، تختلف عن المتبع تقليدياً في الملفات النفسية. من الواجب أن تكون ملخصة، بسيطة ومباشرة بعيدة عن حشو المصطلحات الغامضة وغير المفهومة. ومن المفضل أيضاً أن يتم تجنب ذكر المعلومات الخاصة والسرية، والتي لا تحوي أهمية عملية لحالة المريض أو للإجابة والتساؤل من قبل الطبيب المشرف.
حـ -إعطاء تشخيص مباشر سواء كان مبدئياً أو نهائياً بهدف إزالة اللبس.
ط – توضيح طريقة التعامل والعلاج بشكل مفصل، وعلى الطبيب النفساني أن يتأكد من قدرة جهاز المستشفى على التعامل والتنفيذ لهذه التعليمات.
ي – استكمال الحلقة الاستشارية بأخذ معلومات راجعة عن حالة المريض بعد تلقي العلاج ووضع خطة للمتابعة.
إن هذا الحرص الشديد على أهمية الارتباط والاستشارة للطب النفسي في المستشفيات العامة، تأتي كما ذكر سابقاً من جوهر الارتباط الوثيق بين الجسد والنفس، وهذا الارتباط يأخذ تعبيرات مختلفة نوردها كما يلي : –
1. العوامل النفسية قد تأتي كمرسبات للأمراض العضوية. مثلاً، أثر التوتر على القرحة المعدية.
2. أمراض نفسية تعبر عن نفسها بأعراض جسمية. مثلاً، الأمراض الجسمنفسية كالأعراض التحويلية والمراق والقلق.
3. المترتبات النفسية من الأمراض الجسمية. مثلاً، حالات عدم التأقلم نتيجة فقدان البصر .
4. الأمراض النفسية المترافقة مع أمراض جسدية بالتصادف، كترافق القلق مع الأورام الخبيثة.
5. الأمراض النفسية الناتجة مباشرة من عطل عضوي. مثلاً، الإصابة الدماغية للفص الجبهي المؤدية لاضطراب الشخصية.
ويبدو – الاكتئاب – موضوعنا المطروح كعامل مشترك في كل الأحوال السابقة. فهو كمرض نفسي يختبئ في أحيان كثيرة تحت غطاء الأعراض الجسمية والبيولوجية. ولهذا فهو يأتي بهوية غامضة، قد تخفى على طبيب الاختصاص الآخر المواجه لهذه الحالة في المستشفيات العامة. وهو بهذا لا يلام إذ أنه يشاهد أعراضاً توحي بوجود علة عضوية، ما هو موقفه وهو يرى المريض يعاني من قلة الشهية وإضطراب النوم، وفقدان الوزن، والإمساك، والعنه الجنسية، واضطراب الدورة الشهرية، والصداع، والشعور بالتنميل أو الوهج في الأطراف، والتعب العام، والخلل في الذاكرة، وآلام الصدر، وصعوبة التنفس. وأضف ما شئت ؟! وتظهر هذه التعبيرات الجسدية للاكتئاب أكثر ما تظهر – وكما تؤكد الدراسات والقراءات الإكلينيكية – في دول العالم الثالث، حيث قلة التعبير اللغوي عن النفس ومكنوناتها، حتى أن الرجال الشرقيين يرون في الحزن والبكاء إهانة تنتقص من مميزات الرجولة وتحبط صفة الخشونة والاعتداد !
ويأتي الحل لهذا المشكل الصعب بلجوء الطبيب إلى الفحص النفسي لمريضه والسؤال مباشرةً عن المزاج، فقدان الاهتمام بالحياة والمتعة بها، والأعراض النفسية الأخرى والتي سوف تؤكد تشخيص الاكتئاب. إن بضع الدقائق الكافية للفحص النفسي لن تسبب خسارة الطبيب أو تعبه عند عملها، ولكنه وبدون شك سوف يخسر الكثير إذا رافقه الإهمال في عملها، هذه الخسارة تُضر المريض في وقت شفائه ونوعية حياته ومعاناته وتفقد الطبيب ثقة المريض به، وهي من أهم خصائص العملية العلاجية الناجحة ، وفوق ذلك فهي تمثل إخفاقاً وفشلاً للطبيب في إدراك التشخيص والمعالجة.
الاكتئاب كذلك من المترتبات الرئيسية للأمراض العضوية، وعلى سبيل الإيضاح لا الإجمال، نرى أن حوالي ثلث المرضى المصابين بإحتشاء العضلة القلبية يعانون من الاكتئاب والقلق، خلال ستة أسابيع من حادثتهم غير السعيدة (الاحتشاء). صحيح أن هذه النسبة تقل خلال متابعتهم بعد سنة إلا أنها تبقى مرتفعة، إذ أن 20% منهم تبقى لديهم أعراض اكتئابية كافية للتشخيص، وبحاجة إلى تقييم وعلاج نشط. والنسبة السابقة تنطبق كذلك على السيدات اللواتي أجرين عملية إزالة الثدي Mastectomy كما تؤكده العديد من الإحصائيات والدراسات.
وتجدر الإشارة هنا أن الاكتئاب قد يكون التعبير الأول للعديد من الأمراض العضوية غير المكتشفة، ويمثل عرضاً أصيلاً فيها. والقائمة طويلة فهي تشمل الاضطرابات التشريحية والوظيفية للدماغ، وأمراض الغدد الصماء، والأورام الخبيثة المختلفة خصوصاً في منطقة رأس البنكرياس، وأمراض الكلى، والالتهابات الجرثومية والخمجية، وأمراض المناعة الجسمية وغيرها، كما تبدو العلاجات المتلقاة من المريض ذات أهمية كبرى، إذ أنها قد تساهم في ترسيب بل وفي تسبيب الأعراض الاكتئابية.
على المعالج والطاقم الطبي إذن أن يبقوا العيون مفتوحة على مريضهم، صاحب العلة العضوية لادراك أعراض الاكتئاب مبكراً، ولحسن الحظ فأن الاكتئاب هنا هو مشكلة ذات حلول وتستجيب جيداً للعقاقير المضادة للاكتئاب.
إن الطبيب النفسي المستشار في الحالات الآنفة يواجه تحدياً مهماً لعلمه وخبراته، وعليه أن يجيب على العديد من الأسئلة والاستفسارات : –
1. هل الاكتئاب كعرض أو كمرض موجود لدى هذا المريض ؟.
2. هل الاكتئاب أو غيره كاضطراب الشخصية يتداخل ويساهم في استمرار المرض العضوي، والتجاوب مع العلاجات والشفاء والتحسن ؟
3. هل من المتوقع أن يؤدي المرض العضوي إلى أعراض اكتئابية وكيف يتم الكشف المبكر عنها ؟
4. هل هنالك اقتراحات معينة تتعلق بعلاج المريض أو أية إجراءات مناسبة أخرى ؟
5. هل هنالك ضرورة لنقل المريض إلى مستشفى للطب النفسي، وهل هنالك أعراض خطيرة كالأفكار الانتحارية قد تلوّح بإنهاء الحياة ولا يمكن السيطرة عليها داخل المستشفى العام ؟
وتبقـى هذه الخطوات نقاطاً عملية مفيدة لما هو متاح في الواقع، ويبقى في أذهاننا نحن المهتمين والمنتمين للجهاز الطبي نظرة استراتيجية مثالية، تهدف إلى جعل الطب النفسي الارتباطي حقيقة روتينية نعمل بها في مستشفياتنا العامة، لما فيه من مصلحة جلّى للمريض ولثقافة طبية نفسية ناضجة.
واقرأ أيضًا:
ما هو الاكتئاب؟