الواقع العربي تطغى عليه الكتابات المأثورة بالدين، والتي تتناول موضوعاته وتكررها، وكأننا لا نزال في حالة تجمد وركود كالمومياءات المحنطة منذ أكثر من ألف قرن في أقبية الأجداث المظلمة.
ولا تكاد تخلو حقبة زمنية في مسيرة الأمة من إعادة تدوير ناعور السلفية والأصولية والطائفية والمذهبية، وغيرها من التفرعات التي أوجدتها تفاعلات العقول المريضة مع النص الديني.
وكأن المسلمين لوحدهم عندهم هذه النزعات، بينما هي موجودة في كافة الأديان ومنذ أن انطلق البشر بالوعي الديني بمستوياته وآلياته التصورية المتنوعة. والديانات الثلاثة الرئيسية تتشابه في موضوعات السلفية والطائفية والمذهبية والفرق والجماعات، وما يتمخض عنها من سلوكيات متطرفة ومتوحشة باسم الدين.
فالمشكلة ليست بالدين وإنما بالمفكرين والعلماء الذين توحلوا بالدين، وأنكروا الحياة وما اقتربوا منها بعقل علمي مبين.
فالمفكرون العرب والعلماء ومنذ قرون وقرون لم يتفاعلوا مع الواقع بأساليب علمية وتنموية للثقافة والمعرفة، وإنما تقوقعوا في كينونات تحوم حول الكراسي، واعتبروا العلوم من حق الخواص أو النخبة كما نسميهم اليوم، وأنكروا على العوام أي عامة الناس العلم والمعرفة، وحشروا أنفسهم في المواضيع الدينية، فلا تجد عالما وفيلسوفا ومفكرا إلا وتناول الدين، وراح يدلي بدلوه في مواضيع تفسير وتأويل الآيات القرآنية، والتركيز على ما يخدم الكرسي ويؤمّن منافعه الذاتية، فينال من ذلك المكارم والمقامات الرفيعة لأنه قد صار قريبا من الكرسي العتيد.
وبسبب ذلك أسهموا بتجهيل الأجيال وحرمانها من العلم والمعرفة، وانسحب ذلك عليهم فأصابهم الويل والعذاب، لأنهم بلا قاعدة شعبية ولا تابعين من عامة الناس، الذين أصبح من موجبات التسلط عليهم القبض على مصيرهم بالدين، فكان للمتاجرين بالدين دورهم في تأمين التأييد الجماهيري للكرسي الذي يستخدمهم إلى حين.
وترانا اليوم نكرر ذات السلوك الخطيئة الذي مارسه المفكرون والفلاسفة على مر العصور، وتجدنا نكتب عن السلفية والفرق الدينية ونحاول أن نبرر ونفسر أن الذي أصاب الأمة ويصيبها بسبب الدين، وكأن المجتمعات لا يشغلها في الدنيا إلا الدين، ففيه الحياة والممات.
إن الاقتراب النافع عليه أن يبتعد عن هذه الهذيانات التي لا تفيد بل تضر، لأنها تدفع إلى مواقف دفاعية وتعزز التمسك بما هو خائب وبائد، فعلينا أن نركز على المنطلقات العلمية المعاصرة اللازمة لبناء الحياة وصناعة المستقبل، ونهمل الكلام في الموضوعات الدينية والتنظير والتحليل الغاشم، الذي في جوهره يساند ما يتصدى له ويمنحه آليات بقائية وتنموية وتوظيفية تؤهله لتجنيد المزيد إلى جانبه، فالإهمال هو الاقتراب الأنجع، والتركيز على اكتساب مهارات صناعة الحياة وتطويرها وتنمية قدرات الأجيال وإطلاقها لكي تساهم في مسيرة العصر المنيرة، هو الأكثر نفعا وقدرة على بناء الواقع الإنساني السعيد.
وعليه فإن المطلوب من المفكرين والمثقفين العمل على تغيير وجهة الخطاب التنويري نحو الإيجابية، ومهارات صناعة الأمل وتزويده بوقود التفاؤل والانطلاق إلى قادم سعيد، وبهذا سيتمكنون من إنشاء تيار معرفي يزداد قوة مع الأيام.
ولا يمكن إنقاذ الأمة من مستنقعات التضليل وآفات البهتان وسلوكيات الانكسار والخسران، إلا بالوصول إلى تيار تنويري يجري في ربوع الأجيال كالنهر الدفاق المولد للحياة الإنسانية الحرة الكريمة، التي تحترم العقل وما فيه من رؤى وتصورات ومعتقدات، وتحسبها زينة الدنيا وعدتها للنماء والرقاء الحضاري الخلاق.
فهل يمكننا أن نصنع تيار نور تستنير به الأجيال، وتبتعد عن أجيج النيران والامتهان؟!!
واقرأ أيضاً:
قال وقال وأمة تُقال!! / الظواهر المعاكسة تندحر!! / المجتمعات المفخخة!! / هزي قهر يا أمة!! / البحث والإبداع!!