من أوليات الصحة النفسية هي وجود الشيء ونقيضه معًا عند الإنسان، فعندما نريد تعريف الشيء بالموجب، لا ينفصل ضمنيًا عن نفي نقيضه، ولما كانت المقارنة عملية لا يستطيع العقل البشري بسهولة قبولها أو رفضها، عندئذ يكون لدينا تصور يتبادر إلى الذهن ما هو ليس أبيض، فإنه سيكون حتمًا أسود، أو أي لون آخر، وكذلك الشيء الكبير سيكون نقيضه حتمًا الشيء ما ليس كبير، أي ما هو صغير، وتزداد الصعوبة حينما يكون للمفهوم قيمة، وبالأخص إذا كانت عقلية، مجردة غير مادية، وغير ملموسة بالواقع، ولكن ملموسة بنتائجها من التفكير وما ينتج عنه، لا سيما أن التفكير هو سلوك نتلمسه بالواقع من خلال الفعل على مستوى ما يجري في الدماغ. سأطلق لتفكيري العنان بصدد إيجاد العلاقة بين التأمل والتركيز وما يرتبط بينهما من علاقات "متغيرات أخرى مثل أحلام اليقظة، أو غيرها إن استطعت"،
فالتأمل هو شبيه إلى حد كبير بأحلام اليقظة من ناحية عمل الأعصاب ووظائفها، وكثير من الناس لا يميزون بين حالة التأمل وحالة التركيز وأحلام اليقظة، ويقول علماء النفس أن التأمل لا يقوم على التفكير بجهد في شيء محدد، بل على العكس، إن الإنسان يرخي العنان للدماغ في موضوع عام، ويقول" بيير داكو" الإنسان المتأمل منفعل، ودماغه يتلقى الحد الأقصى من الإحساسات، إذن إنها أحلام يقظة في العمق، فالأفكار تجري بسهولة بالنظر إلى أن الدماغ لا يتركز على فكرة معينة منها، وتسير الأمور بيسر فضلا عن قابلية الاستقبال والوضوح حيث تكونان جيدة جدًا. لا نغالي إذا قلنا أن التأمل هو الدرجة العليا من درجات الفكر الإنساني، حيث يكون الفكر نقيا وصافٍ، متسعا جدًا أيضًا، مفعما ونشطا ويسيرا، وكذلك قابلية الاستقبال تكون في حدها الأعلى، بينما التركيز عمل متعب للدماغ، لأنه يشغل المراكز الدماغية التي تعمل خاضعة لتنبيه قوي ومركز.
في علم النفس المعرفي الذي تقوم دراساته وأبحاثه الميدانية التطبيقية على موضوعات التفكير والإدراك والتنبيه والاستدعاء والتعرف والاسترجاع للمعلومات، وكذلك التأمل، فإن في هذا الجانب من عمل الدماغ، وهو التفكير، فإن الفكر يستقر على شيء محدد، على نقطة أو نقاط، معينة فلتكن على سبيل المثال محاضرة مثلا، أو موضوع يفكر به كاتب، أو باحث، أو قصصي، فلابد هنا أن يتدخل الانتباه كنوع من التركيز الضعيف، رغم أن ثمة درجات مختلفة من الانتباه تبدأ من الانتباه المشتت، كانتباه الطالب الشارد الذهن، وتنتهي بالانتباه المحدد، كالإصغاء إلى المحاضرة باهتمام، وكلما تقدمنا أكثر فسوف نذهب إلى التركيز شيئًا فشيئًا. من هنا سنذهب إلى مجال التركيز ونحاول سبر أغواره وإيجاد علاقته بالتأمل.
إن التركيز يقوم على تثبيت الفكرة بجهد على نقطة محددة، أو إكمال نص شعري، أو فكرة جديدة أو إذا كانت مسألة صعبة مثلا، أو موضوع محدد، ويحصر الانتباه بنقطة تركيز واحدة، وهذا ما نلاحظه عندما يتركز الدماغ خلال التركيز الشديد، حتى كادت معظم مناطق الدماغ تنام وتتوقف عن العمل خلال وأثناء التركيز، وهي نفس الحال حينما يتوقف الدماغ عن استقبال المنبهات الأخرى مثل الضجة، أو صوت المذياع العالي، أو الكلام المحيط بالشخص، أو المثيرات الخارجية الأخرى،
يرى علماء النفس أن التركيز لفترة طويلة متعب جدًا، لأنه يتعب المراكز الدماغية التي تحتاج إلى التنبيه القوي وتؤدي إلى الإنهاك أيضًا، ونلاحظ تلك الحالة بصورة واضحة لدى الطلبة في فترة الامتحانات ورغبتهم الشديدة في النوم، وبعد التوقف عن الدراسة "المذاكرة" حيث يستسلمون بصورة قوية للنوم، وهذا التعب سببه التركيز مع إنهاك المراكز العصبية في الدماغ. إن الأبحاث المتعلقة بالتركيز والانتباه والتأمل ترى أن الوضوح يعمل دورًا مميزًا في هذه العمليات العقلية، وقد يكون في حالة التركيز أقل مما في العمليات الأخرى السابقة التي ذكرناها، حيث أن الإنسان في حالة التركيز يتصف بأنه على طرفي نقيض من الوضوح مادامت ثلاثة أرباع دماغه لا تعمل تقريبًا، ومحصور عملها في ولوج عملية التركيز، وتساؤلنا متى ينبغي للإنسان أن يركز؟ أنه يركز عندما يشعر بصعوبات كبيرة في فهم المشكلة، أو موضوع من موضوعات يبحث عنها، أو نص يمتنع من تطويعه، أو إنهائه بشكل يقبله العقل ويخزنه بعد تشفيره "أعطاه شفرة وخزنه في الدماغ" لغرض استدعائه متى ما يحتاج ولكن ليس بطريقة آلية ميكانيكية" ، التركيز يعني بالمعنى الأدق أنه جهدًا ضخمًا، والجهد الضخم يعني نقصًا في سيادة الفرد على ذاته، نقصًا يدل بدوره على نقص في اليسر واتساع التفكير الذي يحتاج إلى عصف دماغي لإنهاء هذا المشكل، أو ما يسمى بالقصف الذهني Brain storming .
وفكرة القصف الذهني على أن الفرد وبالأخص المبدع، أنه يستطيع إنتاج عدد كبير من الأفكار حول موضوع معين، وله القدرة على إيجاد العديد من الحلول لمشكلة رياضية، أو مسألة فيزيائية، أو مسألة تتعلق بالعلوم الصرفة، أو حتى في مجال الإبداع الفني والشعري والقصصي، أو كتابة النص، أو تأليف مقطوعة موسيقية، أو رسم لوحة فنية، فهو يحتاج إلى التركيز المركب لإنتاج هذه الحلول، وهذا بدوره يحتاج إلى اليسر الذهني والطلاقة في التفكير وبمرور الوقت أثناء وخلال التركيز يقلل التركيز ويتيح التغلب على المشكل، فالإنسان في مثل هذه الحالة أن يرى، كما يرى، وكما يرى في حالة التأمل. وتبقى مسألة مهمة عند معالجة الدماغ للعمليات المعرفية المذكوره أعلاه، بأن الأفكار الثابتة لدى الفرد تتراوح في شدتها من حيث استدعائها وتأثيرها عليه، فضلًا عن سيطرة الوساوس وتأثيره أيضًا بين القوة والضعف، وأخيرًا الاجترار النفسي الذي يستدعيه الفرد في هذه العمليات المعرفيه ويتراوح في سعته، أو في أحيان أخرى انعدامه تقريبًا، أو يكون قليل الاتساع. وهكذا تتراوح شدة التركيز أو ضعفه، أو شدة التأمل أو ضعفه، بما تمس الدماغ وتأثيره بالقوة والضعف.
واقرأ أيضًا:
النفس.. دوامة الحياة غير المنتهية / الندم.. مدخل سيكولوجي لمحنة الذات / التربية ومشكلة التعصب!! / البلوغ والتشنجات العقلية