الأزمات النفسية السياسية Psycho-Political Conflicts العراقي وحكومته٢٠٢٠
هذا هو المقال الثاني عن العراق والذي يتطرق إلى أزمته في عام ٢٠١٩ ومع قرب مرور ١٠٠ عام على قيام "ثورة" العشرين، ولذلك العنوان ٢٠٢٠.
علم النفس السياسي لا يقتصر فقط على الباحثين في مجال علم النفس كما يتصور البعض ويشارك فيه الباحث الاجتماعي والسياسي والإعلامي وغيرهم. الغاية من هذه البحوث دراسة أسباب الصراعات السياسية وتفاعلها بين مختلف المجموعات ونتائج السلوك السياسي استناداً إلى تفسيرات معرفية، نفسية حركية Psychodynamic واجتماعية.
السلوك السياسي للحكومات عموماً يستند شرعيته من نظام معين، وفي هذه الأيام ومع عولمة التفكير السياسي، يمكن القول بأن هذه الشرعية مصدرها انتخابات ديمقراطية ترسل أفراد أو مجموعات لتحمل مسؤولية قيادة البلد. من يتحمل هذه المسؤولية يضع نصب عينه بأنه تحت المراقبة من الجماهير التي ساندته قبل الانتخابات وكذلك من المجموعات التي لم تسانده والتي بدورها تتوقع من الذين هم في السلطة صيانة حقوقها وسد احتياجاتها الناقصة.
لا تزال العوامل الاقتصادية تلعب دورها في تقييم أداء الحكومات. ارتفاع الإنتاج المحلي الكلي Gross Domestic Product أو (GDP)، توفير فرص العمل، وارتفاع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والأمنية، والعدالة القانونية جميعها مرتبطة بالعوامل الاقتصادية. فشل الحكومة ومن يمثلها في السلطة ومختلف قطاع الخدمات قد يكون مصدره ما يلي:
١- السلوك الفردي الجماعي لمن هم في السلطة مما يؤدي إلى عدم استثمار الموارد المتوفرة لهم وللشعب عموما.
٢- ظروف اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية تقف حاجزاً ضد تنفيذ مشاريع اقتصادية ذات معنى.
يتم دراسة السلوك السياسي لمن هم في السلطة، والجماهير كذلك، في العلوم النفسية من خلال استعمالهم للآليات الدفاعية للذات Ego Defence Mechanisms الناضجة Mature مثل التسامي والكبت والمرح. هذه الآليات الدفاعية يمكن تعريفها بعلاقة صحية وواعية بين الإنسان وواقع الحياة. يقبل الإنسان بواقعه حتى وإن كان لا يقدره كليا، ويتم تحويل الأفكار والمشاعر غير المريحة إلى سلوكيات مقبولة.
الآلية | Defence | التعريف |
التسامي | Sublimation | عمل بناء للتخلص من القلق والأزمات |
الكبت | Suppression | السيطرة على المشاعر السلبية التي تتعارض مع أهدافك |
التوقع الحدس | Anticipation | التخطيط لمواجهة التحديات مسبقاً قبل السماح لها أن تغمرك |
الإيثار | Altruism | تستمد سعادتك الحقيقية من مساعدة الآخرين |
المرح | Humour | رؤية الجانب الإيجابي المرح للتحديات |
الانتماء | Affiliation | مشاركة الآخرين في التعبير عن المشاكل وحلها بنفسك |
في هذا المقال سيتم معالجة هذه الآليات في السلوك السياسي للسلطة العراقية. دراسة هذا الجانب تساعد على دراسة الاثار التنبؤية Predictive Effects للسلطة والشعب على حد سواء لفترة طويلة من الزمن.
سلوك السلطة
من يتبوأ مقعداً في السلطة يحصل على فوائد شخصية متعددة لا يعترض عليها من سيخدمهم، وهذه حقيقة تجدها في جميع المجتمعات. الثمن الذي يدفعه الشعب للقيادي مادياً له شروطه وأحدها الوفاء في عمله والإيثار وما يعنيه الإيثار هو العمل البناء رغم جميع الانتقادات التي توجه له. يستعمل البعض مصطلح التسامي من أجل الوطن، ولكن هذه المقولة لا تسمعها إلا من الذي هو في السلطة داخل العراق على مدى العصور. يتوقع القادة من رعيتهم التضحية لخدمة وطنهم، ولكن الأصح هو تسامي من هو في السلطة من أجل خدمة الشعب. الحقيقة هي أن المواطن يغض النظر أحيانا عن سلبيات القيادي المختلفة في سلوكه الشخصي متى ما استيقن إخلاصه وتفانيه وتساميه.
واجه العراق ظروفاً قاهرة في السنوات العشرة الأخيرة، ورغم وجود مؤشرات عالمية توحي بتحرك البلد اقتصادياً إلى الأمام، ولكن هذه المؤشرات يصعب ملاحظتها في الشارع العراقي بسبب انتشار الفقر والفساد الإداري.
من يصل إلى السلطة سواءً بطريق ديمقراطي أو غيره يدرك جيداً بأن هناك مجموعات لا توافقه الرأي بل ولا حتى تطيقه وتبحث عن الفرص لانتقاده. الديمقراطية أيضا تسمح للجماهير بالتعبير عن رأيها وتسمح لها بالاحتجاج ضد سياسة الدولة بصورة معقولة. فشلت الحكومة العراقية في كبت مشاعرها ضد الاحتجاجات وبدلا من ذلك استعملت وسائل غير مقبولة للسيطرة عليها.
ولكن الفشل الذريع للحكومة العراقية هو عدم قدرتها على توقع الأمور، وغياب هذه العملية الدفاعية يثير القلق. سقوط الموصل عام ٢٠١٤ له عوامل اجتماعية، سياسية، اقتصادية، وفكرية مختلفة ولكن ما يهمنا في هذا المجال بأن من كان على مقعد السلطة وحكومته لم يكن يتوقع اجتياح عصابات لثالث أكبر مدينة في العراق وأثبت عدم قدرته على استعمال التوقع. رغم هذا الفشل الذريع لمن كانوا في السلطة يومها فإنهم لا يزالون يحتلون موقعاً متميزاً في السياسة العراقية. غياب هذا الدفاع البديهي لا يزال مستمراً، والعوامل التي كانت موجودة عام ٢٠١٤ لا تزال كما هي، ولم يتوقع أحد أن يخرج العراقي للاحتجاج عام ٢٠١٩.
مهما كان الموقع المتميز الذي يصل إليه الإنسان في مختلف مجالات الحياة، فهو يستمد سعادته الحقيقية من خلال أداء واجباته ومساعدة الآخرين. لا يزال العراقي في السلطة، حاله حال من سبقه، يساعد المقربين منه عائلياً وعشائرياً وطائفياً. عقدة الانتماء لا يعاني منها العراقي في السلطة فحسب وإنما الكثير من المواطنين، وكانت ولا تزال سبباً في تعثر تقدم العراق منذ قرن من الزمان. ما كان، ولا يزال غائباً، في العراق هو غياب ما نسميه رأس المال الاجتماعي Social Capital حيث يشعر الإنسان بالقرب من مختلف المواطنين الذين يعيشون في البلد نفسه. غياب رأس المال الاجتماعي في العراق مصدره قوة الروابط العائلية والعرقية والقبلية والعشائرية، ولا شك أن من يصل السلطة يجد نفسه مكبلا بقيود الروابط المختلف والأشد من ذلك لا يحاول التخلص منها.
نقاش
محاولة تحليل سلوك سياسي من منظور نفسي ليست عملية دقيقة، ومن الصعب تسليط الأضواء العلمية والدراسة بصورة موضوعية. كذلك فإن من السهل أن يكتب أحدنا عن الموضوع وهو لا يعيش داخل العراق، ولا يتفاعل مع أزماته المختلفة يومياً. رغم ذلك فإن استيعاب الجانب النفسي للسلوك البشري يستهدف رفع درجة البصيرة لمن هو في السلطة وخارجها على حد سواء.
هناك أيضاً ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن ما يحدث في العراق لا يمكن عزله عن ما يحدث في لبنان وإيران مع المقاطعة الاقتصادية العالمية عبر الولايات المتحدة الأمريكية. لا يمكن غض النظر عن نفوذ إيران في العراق ولبنان على حد سواء، ولكن يمكن القول أيضاً أن مظاهر النفوذ الإيراني على الحكومة العراقية كثيرة الملاحظة إعلامياً ويمتد ذلك بدوره إلى الحياة الاجتماعية في مناطق مختلفة من العراق. الولاء الحكومي لإيران لا يثير إعجاب مختلف المجموعات البشرية في العراق، ولا يصعب عليهم إسقاط اللوم على هذا الولاء مع وجود أزمات اقتصادية وسياسية.
هناك حاجة إلى دراسة رأس المال الاجتماعي في العراق ومحاولة تطويره. كذلك هناك حاجة ماسة إلى وعي سياسي وثقافي لكل من يملك طموحاً للوصول إلى السلطة أو وصل إليها. مراجعة السياسي لسلوكه وتأزمه الشخصي قد يساعده على معالجة الأزمات بينه وبين المواطنين بصورة صحية. دون ذلك ينتهي أمره عاجلاً أو آجلاً ويتم إضافة اسمه إلى سجل رجال السياسة الفاشلين في تاريخ العراق السياسي.
واقرأ أيضاً:
رهاب المكان المغلق Claustrophobia رهاب الاحتجاز / الأبعاد النفسية الاجتماعية للاحتجاجات العراقية الجماهيرية