جمدت ينتاب رواد المشروع الصهيوني الذين أسسوا كيانهم على مفاهيم دينية ومعتقداتٍ توراتية، مخاوف كبيرة من ضياع الصبغة الدينية لكيانهم، وذوبان الهوية اليهودية لمستوطنيهم، وفقدان الأغلبية السكانية التي عملوا لضمانها كثيراً بوسائل كثيرة، إذ جلبوا المستوطنين من كل أرجاء الدنيا للعيش في فلسطين المحتلة، وبنوا لهم المدن والمستوطنات، وشجعوا زيادة النسل وأغدقوا العطاء لأصحاب الأسر الكبيرة، وسهلوا مشاريع الزواج المبكر وزواج الشبان، وأمدوهم بالمال وملكوهم مساكن جاهزة، وأعطوهم الكثير مما يساعدهم على بدء الحياة ومواجهة تحدياتها وصعوباتها.
وما زال الإسرائيليون يخططون لزيادة عدد سكانهم بكل السبل الممكنة، وفي المقدمة منها تشجيع من بقي من يهود العالم بالهجرة والعودة، وهو ما عملوا عليه في السنوات الأخيرة مع يهود اليمن، الذين وصل بعضهم بطرقٍ مختلفةٍ إلى فلسطين المحتلة، ورغم ذلك فإنهم يخشون من غلبة الأغيار في كيانهم، وطغيان غير اليهود عليهم، وهم الذين يعيشون هاجس ازدياد السكان العرب، الذين يتزايدون بمعدلاتٍ أعلى بكثير من نسبة النمو اليهودية، وهو الأمر الذي يهدد الصبغة اليهودية التي يتطلعون إليها، ويطالبون الفلسطينيين ودول العالم بالاعتراف بهم دولة هودية.
إلا أن السنوات الأخيرة حملت معها أخطاراً جديدة مختلفة، تهدد هوية الكيان وتضعف وحدته، وتمزق نسيجه وتبهت صورته، فقد بدأت أعدادٌ كبيرةٌ من المهاجرين الأفارقة بالوصول إلى فلسطين المحتلة عبر شبه جزيرة سيناء، علماً أن السلطات الأمنية المصرية قتلت الكثير منهم خلال محاولاتهم اجتياز الحدود، ورغم الإجراءات الأمنية المشددة التي يفرضها الجيش والسياسة القاسية التي يتبعها، إلا أن أعداداً كبيرة منهم قد نجحوا في الإفلات من قبضة حراس الحدود المصريين، والوصول إلى الجانب الآخر من الحدود.
يطلق الإسرائيليون على المهاجرين الأفارقة اسم "المتسللين"، وذلك لحرمانهم من أي حقوقٍ منصوص عليها دولياً لللاجئين، فهم في أغلبهم من المسيحيين والوثنيين، الذين جلبهم الفقر ودفعتهم الحاجة، وخاضوا الصعب وتحدوا الأخطار للوصول إلى فلسطين المحتلة، أملاً في إيجاد فرصة جيدة للعمل وتحسين ظروف معيشتهم الصعبة، وقد فاق عددهم حتى اليوم الأربعين ألف أفريقي، وأصبحت لهم تجمعاتٌ كبيرة وعندهم مجتمعاتهم الخاصة، وقد تلقوا في السنوات الأولى لهجرتهم مساعداتٍ مختلفة من مؤسساتٍ إسرائيلية وأخرى دولية، نظمت وجودهم، ورعت ظروفهم ولبت احتياجاتهم، حيث لم تكن أعدادهم تشكل خطراً على هوية الكيان، كما لم يكن من المتوقع طول بقائهم أو دوام استقرارهم في فلسطين المحتلة.
ضاق الإسرائيليون ذرعاً بهم بعد أن أخذوا يحتمون بالمؤسسات الدولية والهيئات الحقوقية الإسرائيلية، وصاروا يطالبون بحقوقهم ويصرون على البقاء والاحتفاظ بامتيازاتهم، معتمدين على لجان الأمم المتحدة المختصة بشؤون اللاجئين، التي تكفلت بالدفاع عنهم، وضمان حقوقهم، وأرسلت فرقاً خاصة للتعرف على أوضاعهم ومتابعة شؤونهم، وخاضت من أجلهم مع الحكومة الإسرائيلية مفاوضاتٍ صعبةٍ، وحصلت منها على التزاماتٍ وتعهداتٍ تضمن من خلالها عدم المساس بأمن وسلامة المهاجرين، وعدم تعريض حياتهم للخطر، أو حرمانهم طوال فترة وجودهم من حقوق الرعاية، كما طالبت بالكف عن احتجازهم والزج بهم في السجون.
زاد في حدة الاحتقان وفاقم الأزمة، مشاركةُ المهاجرين الأفارقة في أحداث الشغب التي أشعلها يهود الفلاشا في شوارع تل أبيب وكبريات المدن الأخرى، ومساهمتهم في المظاهرات وأعمال التخريب والحرق، التي سقط فيها قتلى وجرحى، حيث يتهمهم اليهود بأنهم مجرمون وعدائيون وعنيفون، وأنهم يحملون أمراضاً وبائية، وأنهم غير قابلين للتعليم والإصلاح، وقد جاؤوا من بلادهم بثقافاتٍ متخلفة، فهم لا يعترفون بالقانون والسلطة والدولة، ويحتقرون المرأة ويعادون المثلية، ولهذا نص القانون الإسرائيلي على منح المتسللين منهم حق الإقامة لمدة ثلاثة أشهر فقط، على أن يغادر البلاد طوعاً، أو ينقل إلى سجنٍ "حولوت" لمدة 20 شهراً حتى يعود إلى بلاده، أو يجد دولةً ثالثةً تقبل به، ورغم أن هذا القانون قد تغير، إلا أن الشرطة ما زالت تعمل بموجبه، وتطبق قوانين وزارة الداخلية القديمة على "المتسللين".
أمام هذا الخطر الداهم الذي يهدد نقاء وصفاء الهوية اليهودية التي يتطلع إليها المستوطنون اليهود، لجأت حكومة نتنياهو إلى بعض الدول الأفريقية الفقيرة، كأوغندا ورواندا وغيرهما، وأبدت استعدادها لتقديم مساعدات اقتصادية وأمنية وعسكرية وغيرها، وهبات مالية كبيرة، مقابل استقبال "المتسللين" الأفارقة، والتعهد بعدم إعادتهم إلى بلادهم الأصلية، في الوقت الذي ستشارك فيه في فتح مشاريع وبناء مؤسسات لخلق فرص عمل جديدة لهم، إلا أن الحكومة الإسرائيلية تجد عقبات كبيرة من اللجان الحقوقية الدولية التي تعارض هذا الاتفاق، وتعتبره نوع من أنواع الترحيل القسري.
إلا أن المستوطنين الإسرائيليين رفعوا الصوت عالياً شاكين ومحذرين، وخائفين وجلين من تنامي هذه الظاهرة واتساعها، أو إهمالها والتأخر في حلها والتصدي لها، فالمهاجرون ليسوا يهوداً، كما أنهم ليسوا جميعاً مسيحيين وثنيين، وإنما منهم الكثير من المسلمين، ممن يحملون أسماءً إسلامية ولا يخفون إسلامهم، ولا يحاولون التظاهر بالانتماء إلى المسيحية لحماية أنفسهم، بل إن أعداداً كبيرة منهم يجاهرون بطقوس دينهم، ويذهبون يوم الجمعة إلى الصلاة في المسجد الأقصى، وبعضهم يشارك في أنشطة الرباط والتصدي لمحاولات اقتحام المستوطنين لساحات المسجد الأقصى، وكثيرٌ منهم يقضي الليالي الطوال خلال شهر رمضان المبارك معتكفاً في المسجد الأقصى، ويشاركون الفلسطينيين في قضيتهم فرحاً بعملياتهم، أو حزناً على ما يصيبهم، خاصةً أن أكثرهم من سكان دارفور ومن مختلف المناطق السودانية الأخرى التي تشهد توترات أمنية وعرقية.
بيروت في 12/1/2020
واقرأ أيضا:
أزمة لبنان تخنق اللاجئين الفلسطينيين وتحاصرهم / الخطاب السياسي الإسرائيلي إثر اغتيال سليماني