"شفيت به نفسي وأدركت به ثؤرَتي"
قبل سنوات التقيت بأحد الأخوة الصينين من الذين عاصروا الحياة في الصين منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، وتحاورنا في موضوعات متنوعة، وسألته أن يحدثني عن الثورة الصينية، التي تمكنت من الفيضان الكاسح في أرجاء البلاد.
وسبب سؤالي له، أنني عجزت عن إجابة سؤاله الذي عنوانه "ماذا بكم، تمتلكون كل شيء ولا تقدمون شيئا؟!".
وقد توصلنا إلى هذا النوع من التفاعل بعد لقاءات متكررة على مائدة الغداء.
عجزت عن الجواب لأني لا أجد إلا التبرير الذي لا يفهمه أبناء العالم المتقدم علينا.
وقد حدثني بإسهاب عن القائد ماو تسي تونغ ومسيرته المتحدية للوضع القائم آنذاك، وعلى مدى أكثر من عشرين عام، وأنه من المثقفين الكبار، والشعراء المتميزين الذين استوعبوا تأريخ الصين وثقافاته المتنوعة، وأدرك لكي نكون علينا أن نغيّر أفكارنا وكيفيات تفكيرنا، فأعلن الثورة الثقافية -برغم ما رافقها من أخطاء- التي علمتنا كيف نكون ونتحقق، ونعبّر عن طاقاتنا ونستثمرها لما هو نافع ومفيد لنا وللإنسانية جمعاء.
فصار التعليم مجانيا وكانوا يعلموننا كيف نفكر ونصنّع أفكارنا، فالحياة والتقدم والتطور والقوة عبارة عن إمكانيات متفاعلة لتحويل الفكرة إلى موجود فاعل في المحيط الذي نحن فيه.
ووفقا لذلك تم بناء قاعدة معرفية وعقلية قادرة على الإبتكار والإبداع، حتى تنامت وانطلقت إلى آفاق المطلق، فأصبحنا نمتلك قدرات إبداع ما نريد وأكثر.
وقد علمتنا المجاعة أن الذي لا يأكل لا يُبدع ولا يصنع فتم الإهتمام الفائق بالزراعة وتوفير الطعام، وصار للزراعة والصناعة مسار واحد، فلا يمكن القول إلا نحن مجتمع زراعي صناعي، فلا يجوز الاستغناء عن الزراعة، لأنها أصل الحياة، فكيف نكون أقوياء إذا لم نأكل بل إذا لم نزرع ونصنع طعامنا؟!
وكانت الرعاية الصحية مجانية فلكي تصنع عقلا لا بد من الصحة البدنية، وتم بناء عقول متنورة وذات مهارات وقدرات تفكير تختلف عن الأجيال السابقة، فقادت حركة بناء العقل الصيني وتحويله إلى قوة فعالة مبتكرة مبدعة وقادرة على تحقيق ما تريد.
وبهذا تحقق التقدم والبناء والتفاعل المبدع في جميع المجالات.
فقلت: لقد أجبت على سؤالي
قال: كيف
قلت: أن نغيّر تفكيرنا وأساليب اقترابنا من الحياة. قال: غيّروا تفكيركم وأمنوا بأنكم ستكونون، فعندكم كل شيء.
قلت: هيهات !!
قال: لماذا نحن فعلناها وأنتم لا تقدرون؟!
قلت: مجتمعات يتيمة بلا قائد، وتعيش في وديان الماضي السحيق.
قال: لا بد من الخروج من أقبية الماضي والتفاعل مع الحاضر والمستقبل، فالقائد يولد من رحم الشعب المؤمن بقدرته على صناعة المستقبل الأفضل.
قلت: هيهات!!
فضحك، وهو يتمتم "أنت يائس"
وأنا أقول لنفسي وما حسبك لو تدري بأننا أصبحنا من المجترات (نجتر ماضينا)، بل ونبدد طاقاتنا بمحاربته، ونفتك بكل قائد يريد العزة والكرامة في ماضي الأمة وحاضرها!!
فالتأريخ المعاصر يؤكد بوضوح أن المنطقة لم تحصل فيها ثورات بالمعنى الصحيح والمعاصر للثورات، أي التطور الإيجابي البنّاء وعلى جميع المستويات لتحقيق ما هو أفضل وأكثر فائدة ومنفعة للأجيال، وذلك بتفجير طاقاتها وتحويلها إلى قدرات مؤثرة في صيرورة حضارية معاصرة مزدهرة.
وقد انحسرت الثورات بمفهوم "التغير" وحسب، وتآكلت.
وفي جميعها كان تغيّرا نحو الأسوأ وكانت تعني التغيير السياسي، ولكن ليس الذي يسعى إلى تحقيق طموحات الشعب التي عجز عن تحقيقها النظام القائم، ذلك أننا لا نمتلك طموحات واضحة.
فالثورات عندنا هي سعي شرس متوحش للجلوس على الكرسي، الذي يتحول إلى وطن وغاية ووسيلة، وهي عنف فتاك ومدوي في أرجاء البلاد، يسفك دماءً ويملأ سجونا ويهجّر الآلاف والآلاف، كما افتقدت للقادة الذين يستوعبون التأريخ وهموم المرحلة وتطلعات الناس وقوانين العصر الذي هم فيه.
فالثورات المعروفة في العالم هي الثورة الأمريكية عام 1776 والثورة الفرنسية عام 1789 والثورة الروسية عام 1917، والثورة الصينية عام 1949 بما تحمله من تطلعات نحو الحرية والعدالة والحرية والتقدم والارتقاء.
وهذه الثورات لا يمكن مقارنتها بما نسميه ثورات في مجتمعاتنا، التي لا تعرف التعلم والتقدم من التجربة والخطأ، كما فعلت الصين، وإنما تعيد الكرة مرارا، ولا تتمكن من الخطو إلى الأمام وتدمن المراوحة، وتستلطف القهقرة.
فالثورات عندنا عبارة عن حالة هستيرية جماعية للتعبير عن رغبة القتل وسفك الدماء، والتخريب والدمار الشامل والأخذ بالثأر المتصوَّر، وهي حركات انفعالية وليست ثقافية فكرية وصناعية وزراعية ذات تأثير حضاري وتطلع تنموي خلاق.
والثورات تذكرنا بالثأر، فهي ثأرية إنتقامية تطالب بالدم فتسفكه بقسوة مرعبة ومشينة، ولهذا فهي ثؤرات أي يدرك فيها مَن تطلب ثأره.
والمثؤور به أي المقتول هو الوطن.
فالثأر: الدم والطلب به والاسم الثؤرة.
والثائر مَن لا يبقي على شيء حتى يدرك ثأره.
وقد "قتلوا البلاد وثأرها لم يُقتلِ".
وثار الشيء أي هاج والثورة الغضب والثوران بمعنى الانتشار.
ووفقا للمعاني اللغوية التي تذكر بها كلمة ثورة، يبدو أننا قد دخلنا في عصر الثؤرات، وليس الثورات منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ولا زلنا في هياج عارم نناطح فيه اللون الأحمر ونسفحه دما رائقا بريئا في جميع الأحوال.
ونسمي سلوكنا الثأري بالثورات، وذلك خداع وتضليل وتدمير لعناصر الحياة.
فلو كانت عندنا ثورات لحققنا السعادة الوطنية، وارتقينا بقدراتنا المعرفية والصناعية والزراعية إلى ما هو خير لنا وأنفع، وعندنا جميع المصادر والطاقات، ولكن الذي يسود هو سوء التفكير وحَمق التدبير، والانفعالية الهائجة التي نحاول تسويغ فعلها المشين بمنحها أسماء لا تمت إليها بصلة.
وما أثورنا في إبداع المسميات واجترار الويلات، ونحن ندّعي الثورات التي نتقنع بها للوصول إلى الثؤورات والمثؤورات، وما أنجزنا وفقا لذلك إلا قتل الوطن وإزهاق روح وطموحات الأجيال وتشريدها في الأصقاع.
فلماذا ندّعي ما ليس فينا ونتمنطق بمنهج الثورات؟!
وفي اليوم التالي قلت للأخ الصيني، نحن لا نعرف الثورة ونحسبها ثؤرة، فابتسم بهدوء
وقال: تقصد "ريفينج"
قلت : نعم
قال: ليس جيدا "نوت ﮔود"
فقلت: هذه عقليتنا وحسبنا ما نحن فيه!!
فهل أنها ثؤرات ونسميها ثورات؟!!
12\7\2010
واقرأ أيضاً:
المنطقة الرهينة!! / مَن عطّل عقلنا؟!! / النخب الرهينة!!