تابعت وقتها ما جرى بين فضيلة شيخ الأزهر والأستاذ رئيس جامعة القاهرة، وكان حواراً فكرياً راقياً مُعبّرا عن رؤى وتصورات ذات قيمة ثقافية، ولم أجد فيه ما قرأت من تعليقات وكتابات وردود أفعال متنوعة. فتساءلت لماذا الضجيج؟
حاولت البحث عن الإجابة، وهذه بعض العوامل التي رُبّما أسهمت بما حصل بعد الحوار:
أولاً: أُميّة الحوار
الحوار ظاهرة غريبة عنّا، فمجتمعاتنا وعبر أجيال وأجيال ما تعلمت أو اطّلعت أو شاهدت حواراً بين العقول في المجتمع، وما تعودَته هو السمع والطاعة وحسب.
ولهذا عندما نرى رموزاً بهذا المستوى تتحاور نستغرب ونغضب ونستنهض ما فينا من نمطيّات وآليات وانفعالات متصلة بها وكأن عليهم ألّا يتحاورا ولا يكون لكل منهم رأيه.
ثانياً: القدسية
القدسية نزعة عاصفة في وعينا الجماعي، وتدفعنا إلى أن نجعل من أقوال الرموز بأنواعهم وكأنها القول الفصل فيما يذهبون إليه، ولا يجوز الاعتراض أو التساؤل والتّحاور بشأن ما يطرحونه ويذهبون إليه.
ثالثاً: النرجسية
النرجسية قد تتحول إلى عاهة سلوكية، خصوصاً عندما تمتد إلى ما ينتجه الشخص وما يتّصل به من كلام وخطاب ورأي وغير ذلك، وهذا يتسبب بالتصادم والاحتكاك ويُفضي إلى تداعيات سلبية مُدمّرة للوعي الجماعي لاستشراء آفة التماهي مع الحالة أو إضفاء المفردات النرجسية عليها.
رابعاً: الأنا المُتورّمة
المناصب تتسبب بإصابة الأنا الفردية والجماعية بتضخم مرضي يدفعها إلى العماء الإدراكي وفقدان قدرات التّبصُّر والفهم، فتحسب أن ما فيها ويبدُر عنها هو الذي يجب أن يسود ويطغى وغيره عدوان عليها ويستوجب الردع والإفناء.
خامساً: العاطفية
البشر يتعاطف مع ما فيه وقد يراه في غيره من الحالات الماثلة أمامه، مما يؤدي إلى استجابات مُتوافقة مع هذا الموقف العاطفي الأعمى الذي يعتمد على آليات انفعالية انعكاسية سريعة ومُتأجّجة ذات اندفاعية عالية.
سادساً: التّعجُّبية
البشر يُعجب ويتعجب ويفعل العَجب العُجاب، وحالما يعجب فإنه يُبدي ما يتفق وذلك من الحالات السلوكية وردود الأفعال المطلوبة، وعندما يكون في مواجهة الإعجابين يضطرب سلوكه وينطلق في تعبيرات توافقية للحفاظ على الحالتين.
سابعاً: النقد والانتقاد
الخلط بين النقد والانتقاد هو السائد في مجتمعاتنا، فتحمُّلنا للنقد ضعيف ونقرأه بعيون السوء والبغضاء ونراه تقليلاً من القيمة ولا يمكننا أن نتصوّره نشاطاً معرفياً فكرياً ثقافياً يُساهم في البناء والتقدم.
ثامناً: هالة المنصب
لكل منصب هالته الوهمية وأطيافه السرابية التي تجعل الناظر إليه لا يراه وإنما يتصوره ويلقي عليه ما فيه من الخداعات النفسية والبصرية المُصنّعة في دياجير الأحلام المكبوتة، فيكون الذي أمامه على غير طبيعته وجوهره فيتواصل مع ما فيه لا مع واقع الحال الذي يتناوله.
تاسعاً: الرأي الآخر
الوعي الجماعي في مجتمعاتنا لا يؤمن ولا يقبل الرأي الآخر، وهذه مُعضلة سلوكية تسببت بتداعيات حضارية متراكمة ومستديمة وأدّت إلى ضُمور قدرات التعبير عن الرأي الآخر والالتزام بالرأي الذي يتحقّق وينطلق من منضات التحكم بمصير البشر بأنواعها ومشاربها.
عاشراً: الاستبدادية
الاستبداد طبع بشري من الصعب تطبيعه والانتصار عليه وترميمه، ففي كل منا يتوطّن مارق مستبد عنيد لا يقبل إلّا ما يراه ويريده، ويحسب الآخرين من حوله بلا قيمة ولا رأي ودور وعليهم وبلا استثناء أن ينفّذوا أوامراه ويباركوا آراءه وتصوّراته فهو الذي بيده الأمور.
هذه بعض العوامل التي ربما دفعت إلى فهم وتلقي الحوار الثقافي الراقي بين الشيخ والرئيس على أنه غير ما ذهب إليه، ففيه من الدروس والعبر الحضارية الإيجابية ما لم نتناوله، ورحنا نتكلم بلسان ما فينا ووفقاً للعناصر الآنفة الذكر.
فالحوار يُغنينا ويهذبنا ويُعلّمنا وينوّرناُ ويُنمّي طاقات كينونتنا الأبية القوية الساطعة. فلماذا نتفاعل مع الحوار بما يلغي الحوار؟!!
20\2\2020
واقرأ أيضاً:
الدول الأبيّة والدول السَبيّة / سلوك العمامة والنفس اللوّامة / الطُغْوانيّة / أمة كان.. زوبعة في فنجان