مصطلح التفارق أو الانفصال لا يقتصر استعماله على العلوم النفسية وهو مقتبس من الكيمياء عند الحديث عن انفصال مادة كيمائية إلى جزيئات وذرات. هذه العملية الكيمائية قابلة للانعكاس ويتم استعمال مصطلح التفارق أحياناً للتعبير عنها في اللغة العربية. كذلك الحال مع الانفصال في العلوم النفسية فهي عملية نفسية قابلة للانعكاس.
هناك العديد من المصطلحات في الصحة النفسية التي لا تخلو من الغموض سواء كان ذلك في مجال الممارسة المهنية أو في الاتصال بين الطبيب أو المعالج النفساني ومستخدم الخدمات النفسية، من أكثر هذه المصطلحات غموضاً هو مصطلح الانفصال Dissociation أو التفارق. هناك أكثر من تعريف للتفارق كما يلي:
- العطل في الوظائف المتكاملة للوعي والذاكرة والهوية الشخصية وإدراك البيئة.
- استبعاد عن الوعي أو عدم القدرة على الاستدعاء الطوعي لذكريات وأحاسيس و مشاعر وخيال ومواقف شخصية.
- انقطاع في إدراك الإنسان لنفسه وبيئته.
استعمال مصطلح التفارق
يستعمل الكثير من العاملين في الصحة النفسية مصطلح التفارق في تفسير أو تعليل ملاحظات على سلوك المريض وأعراضه. ويتم استعمال هذا المصطلح بطرق عدة مثل:
هو الآن يتفارق Dissociating.
هذه الأعراض تفارقية Dissociative
مصاب باضطراب تفارقي Dissociative Disorder.
يستعمل عمليات دفاعية تفارقية Dissociative Defenses.
هذا الاستعمال الشائع يؤدي إلى استنتاج واحد فقط وهو غموض هذا المصطلح ومعناه. متى ما كان المصطلح الطبي النفسي غامضاً كثر استعماله لتفسير ما لا يستطيع الطبيب النفساني كشفه أو تفسيره بصورة علمية.
الزاوية الثانية التي تتعلق بالانفصال هي علاقته بمفهوم الهستيريا. المصطلح الأخير انقرض أو قارب على الانقراض من الممارسة المهنية في الصحة النفسية، ولكنه لا يزال متخفياً خلف اضطرابات نفسية متعددة منها اضطرابات الشخصية والاضطرابات الجسمانية والاضطراب التحولي Conversion Disorder. هذه الاضطرابات طالما يصاحبها استعمال ظاهرة التفارق بل وحتى تشخيص اضطراب التفارق نفسه.
كذلك يكثر استعمال التفارق كتشخيص أو عملية نفسية في ما يسمى بالمتلازمات الملزمة بالثقافاتCulture Bound Syndromes هذه الاضطرابات النفسية التي تتواجد في بعض الحضارات ومنتشرة في جميع قارات العالم يتم حصرها أحياناً بأنها مجرد اضطرابات تفارقية.
يفسر البعض الاهتمام بالتفارق بشيوع تشخيص اضطراب الكرب التالي للرضح (الصدمة) Post Traumatic Stress Disorder PTSD . يصنف البعض الاضطراب الأخير على أنه ناتج من عملية التفارق أو هو بحد ذاته اضطراب تفارقي كما يشير إليه التصنيف العاشر للاضطرابات العقلية الصادر من منظمة الصحة العالمية.
لا تقتصر أهمية التفارق في مجال الممارسة الطبية وإنما له أبعاد اجتماعية متعددة. هناك الكثير من الطقوس الاجتماعية والدينية التي يربطها الكثير بالتفارق وأحدها على سبيل المثال بعض الطقوس الإسلامية الصوفية. كذلك يشير البعض إلى أهمية استعمال الانفصال في التنويم المغناطيسي والأحلام والسحر وغيرها.
مراحل التفارق
الإنسان في حالة الوعي الكامل يدرك استمرارية جسده وشخصيته وذكرياته وأفعاله وإدراكه. هذه الاستمرارية التي يدركها الإنسان تتجاوز محيط الفرد إلى بيئته. بعبارة أخرى يمكن القول بأن الإنسان في حالة الوعي يدرك استمرارية نفسه مع محيطه.
هذه الاستمرارية قد يحدث فيها انقطاع لأسباب عدة منها الإرهاق والقلق وتلاحظ الإنسان في حالة شرود وانفصال أو سحب من محيطه. تراه لا يستمع إلى حديث الآخرين وكأنه في عالم آخر. هذه الحالة من السحب Disengagement هي من أبسط ظواهر الانفصال التي يمر بها كل إنسان.
المرحلة الثانية من مراحل التفارق هي ما يسمى بتبدد الشخصية أو الإنية Depersonalization . في هذه المرحلة يشعر الإنسان بأن هناك انقطاعا في استمرارية نفسه أو كيانه والكثير يوصف الظاهرة وكأن الفرد في حالة مشاهدة مستمرة لنفسه. وصف الإنسان لهذه الحالة لا حدود له وهناك من يصف الحالة وكأنه تجزأ إلى عدة مقاطع وبأشكال هندسية متعددة.
المرحلة الثالثة التي قد تعقب الثانية أو تحدث في نفس الوقت أو حتى بمفردها هي تبدد الواقع Derealisation . الكثير من الأفراد يوصف المحيط الذي هو فيه أو سلوك من حوله وكأنه مسرح يتفرج هو عليه لوحده. لا اتصال له مع المسرح ولا مع من هم على خشبة المسرح.
أما المرحلة الرابعة من الانفصال فتولد إما من جراء تكرار التجارب الثلاثة أعلاه أو تكون ظاهرة نفسية بحد ذاتها. يشعر الإنسان أحياناً بتضيق عاطفي Emotional Constriction ويبدو واضحاً في تفاعله مع الآخرين. هذا الشعور يختلف عن الاكتئاب ولا يصاحبه أعراض اضطرابات النوم أو الشهية.
أما المرحلة الخامسة من الانفصال فهي تتعلق بالذاكرة وتسمى بفقدان الذاكرة التفارقية Dissociative Amnesia. يبدأ الفرد بحجب بعض الذكريات غير المرغوب فيها المشحونة بالألم والشعور بالذنب. خير مثال على ذلك تعرض الأفراد لتحرشات جنسية أثناء الطفولة التي يتم حجبها عن ذاكرة الإنسان لفترة طويلة. هذا الحجب عن الوعي قلما يكون دائمي وترى الذكريات تعود إلى الذاكرة في لحظات لسبب أو لآخر.
أما المرحلة الأخيرة من الانفصال فهي أكثر ظواهر الانفصال جدلاً وتسمى اضطراب الهوية التفارقية Dissociative Identity Disorder DID. هناك مصطلح آخر شائع الاستعمال في الأوساط الإعلامية والأدبية وهو اضطراب الشخصيات المتعددة Multiple Personalities. تصور الأدبيات الفنية أحياناً تقمص الإنسان لشخصيات متعددة ولفترة زمنية طويلة. يتقمص الإنسان شخصية معينة ويتخلص منها بعد فترة ليتقمص شخصية أخرى بعد فترة بدون وعي منه. الكثير من العاملين في مجال الصحة النفسية يشكك في وجود هذه الظاهرة. صور الأستاذ الكبير الراحل إحسان عبد القدوس الشخصيات المتعددة في رواية بئر الحرمان.
يمكن القول بأن الأعراض التفارقية هي تجربة داخلية شخصية بحتة لا يستوعبها الآخرون ولكن المظاهر السلوكية التي يلاحظها العامل في الصحة العقلية هي:
اكتئاب |
قلق |
هلع |
رهاب |
وسواس قهري |
اضطرابات الأكل وخاصة القهم العصبي |
جسدية نفسانية |
وهام |
هلاوس |
ما هو التفارق
هذا السؤال تتعثر الإجابة عليه من قبل الكثير من العاملين في الصحة النفسية. هذا الارتباك يتجاوز الممارسة المهنية إلى مجال البحوث العلمية كذلك. ينظر البعض إلى التفارق على أنه آلية دفاع غير شعورية Unconscious Defence Mechanism وظيفتها تكيف الإنسان لظروف وأزمات نفسية تواجهه بين الحين والآخر. هذا التعريف ليس من السهل القبول به لتعدد مراحل أو ظواهر التفارق يضاف إلى ذلك أن الإنسان في الكثير من الحالات يشكو من الظاهرة نفسها على عكس عمليات الدفاع غير الشعورية التي لا ينتبه إليها الفرد.
الكبت Repression غير التفارق كما هو موضح في الجدول أدناه.
الكبت | التفارق |
تقسيم أفقي بين الوعي ولا وعي | تقسيم عمودي بين الوعي ولا وعي |
منع الاستجابة لرغبات ممنوعة تتعارض مع الذات | عزل أفكار ومشاعر وذكريات صدمات غير مرغوب فيها |
من جراء ذلك يتوجه البعض إلى تعريف التفارق كعملية نفسية Psychological Process بحد ذاتها. هذه العملية متعددة الأسباب والظواهر ولكن العملية نفسها واحدة. رغم أن هذا التعريف أكثر وضوحاً من الأول ولكنه لا يساعد أحياناً في تفسير تعدد الظواهر المختلفة والانتقال من مرحلة إلى أخرى وخاصة التشنجات التفارقية Dissociative Convulsions التي تشبه الصرع.
الاضطرابات الانفصالية يتم تصنيفها في جميع المجلدات التشخيصية. هناك حقل خاص للاضطرابات الانفصالية1 في المجلد التشخيصي الإحصائي الخامس للجمعية الأمريكية للطب النفسي DSM V ويشمل هذا الحقل:
اضطراب الهوية الانفصالي Dissociative Identity Disorder.
فقدان الذاكرة الانفصالي Dissociative Memory Loss.
اضطراب تبدد الآنية\ الواقع الانفصالي.
اضطراب انفصالي آخر معرف .
اضطراب انفصالي غير معرف .
التعامل مع التفارق
التفارق بحد ذاته ظاهرة نفسية يمكن ملاحظتها في جميع الاضطرابات النفسية وخاصة القهم العصبي والكرب التالي للصدمة. في الكثير من الأحيان يختفي خلف ستار التفارق اضطراب نفسي جسيم يجب علاجه أو ذكريات وأزمات نفسية تعطل تحرك المراجع في الحياة ومواجهة التحديات. لذلك يستحين التركيز على علاج الاضطراب الأولي بدلا من معالجة الأعراض التفارقية.
توضيح مصدر العملية للمراجع في غاية الأهمية والاتفاق على خطة علاج تستهدف الاضطراب الأولي أو الأزمات هو الحل وليس التركيز على الأعراض نفسها.
من المعروف عن شارل داروين أنه كان يعاني من أعراض قلق متعددة وفي مقدمتها تبدد أو اختلال الإنية منذ عمر ٢٨ عاما بعد عودته من رحلته. لم يشل التفارق أدائه العلمي والمعرفي.
المصادر
1- American Psychiatric Association (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders-V . Arlington, VA, USA: American Psychiatric Publishing.
2- Gleaves D. H., May M. C., Cardeña, E. (2001). "An examination of the diagnostic validity of dissociative identity disorder". Clinical Psychology Review 21 (4): 577–60.
3- Kluft R(1991). Clinical Presentations of Multiple Personlaity Disorder. Psychiatric Clini North Am 14:695 -719.
4- Lynn, SJ et al. (2012). Dissociation and dissociative disorders: challenging conventional wisdom. Current Directions in Psychological Science 21: 48–53.
5- Steiner, H.; Carrion, V., Plattner, B., Koopman, C. (2002). Dissociative symptoms in posttraumatic stress disorder: diagnosis and treatment. Child and Adolescent Psychiatric Clinics North America 12: 231–249
واقرأ أيضاً:
التعامل مع الغضب والصحة النفسية / هستيريا Hysteria