تبدأ وظيفة دموع الإنسان الفسيولوجية منذ اللحظة الأولى لبداية الحياة. لا يقوى الإنسان على جفاف عينيه وهناك من هو بحاجة إلى دموع اصطناعية للحفاظ عليها. ولكن ما يشغل الإنسان دوماً هي تلك الدموع التي تنسكب من العينين مع شعور الإنسان بعاطفة معينة.
الدموع في البالغين رد فعل عاطفي لمشاعر تعبث بالإنسان من حزن وحداد وغضب وفرح. يعبر فيها الإنسان عن نفسه ويشارك الآخرين مشاعرهم وحزنهم وفرحهم. والدموع ليست علامة ضعف كما يتصور البعض. عبر عن ذلك أحد أدباء القرن الثامن/تاسع عشر واشنطن إرفينغ قوله: هناك البعض من القدسية في الدموع. الدموع علامة قوة وليست علامة ضعف. بلاغة الدموع تعادل عشرة آلاف لسان ينطق، وهي رسل الحزن العميق، الندم والحب الذي لا يمكن وصفه.
يُعرف عن جرير شاعر بني تميم رثائه لزوجه في قصيدة لا تزال إلى اليوم تتصدر بديع الرثاء ويقول فيها:
لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يُزار
ولذلك قال رحمه الله يوما ما: تمنيت لو بيت واحد ينسبه الناس لي. فسألوه ما هو؟ قال: قول ذي الرمة: ما حال عينك منها الماء ينسكب.
مشاهد الدموع في العلاج النفسي
من الأسئلة التي يستعملها الطبيب النفساني أحيانا في حواره مع مراجعه للاستفسار عن حالته الوجدانية هو: هل لاحظت مؤخراً سرعة شعورك بالحزن والبكاء عند سماع كلام ما أو خبر حزين؟ يحاول الطبيب النفساني عن طريق السؤال والجواب معرفة تغير الإنسان عاطفياً وشعوره بالاكتئاب. كذلك يستهدف فتح باب النقاش مع المراجع حول الأزمات النفسية التي تصارعه ولا يقوى على تجاوزها. سرعة شعور الإنسان بعاطفة تؤدي إلى البكاء لا يعني بالضرورة إصابة الإنسان بالاكتئاب أو أي اضطراب نفسي بل على العكس فإن الإنسان الذي يسرع بالبكاء إنسان يتميز بالنضوج العاطفي والنفسي ولا يتحرج في التعبير عن مشاعره أمام الآخرين. ما يحاول الطبيب أو المعالج النفساني الوصول إليه هو أن تغير الإنسان مؤخراً.
وهناك مشهد آخر معاكس للبكاء و هو عدم قدرة الإنسان على البكاء. يحدث ذلك أحياناً في الحداد الذي لم يبدأ أو المتأخر. رغم أن الغالبية العظمى من الناس تجهش بالبكاء في المراحل الأولى للبكاء ولكن هناك من يصيبه الذهول بعدم قدرته على البكاء لأسابيع وأحيانا لعدة أشهر ويمكن تفسير ذلك في الممارسة المهنية كالآتي:
١- رد فعل الإنسان لرحيل المقربين منه صدمة لا يقوى الإنسان على التعامل معها بسهولة وفي البداية هناك إنكار وتحوير للحقيقة. هذا الإنكار والتحوير لا يطول أمره ويقبل الإنسان الحدث بعد مدة ويبدأ الحداد.
٢- تأزم الإنسان مع الراحل ووجود مشاعر متناقضة من غضب وحنان وحب وكراهية لا يقوى على التعامل معها. عدم بداية الحداد في هذه الحالة يطول أمره أحيانا ويبدأ الإنسان بالشعور بالضيق منه و قد يرسله إلى موقع اكتئابي. هذا المشهد كثير الملاحظة ويجب الانتباه إليه ومساعدة المراجع في التعامل مع الحداد بدلا من وضع الحواجز أمامه. استعمال عقاقير مضادة للاكتئاب في هذه الحالة طالما يؤدي إلى تدهور حالة المراجع النفسية.
٣- لكل إنسان احتياجات خاصة به وليس هناك من يخلو من مشاعر إنانية أو نرجسية. هناك من يتسلط عليه الغضب تجاه الراحل بسبب رحيله المفاجئ السابق لأوانه وهذا المشهد كثير الملاحظة مع تأزم الزوجة تجاه أهل زوجها والصراع الجديد الذي يحدث في فترة الحداد مع إسقاط اللوم على هذا الإنسان وذاك.
الخدر العاطفي والدموع
القاعدة العامة التي ينتبه اليها الطبيب النفساني هي أن الرجل الذي يبكي أثناء تقييم الحالة النفسية مصاب بالاكتئاب إلا إذا تم إثبات غير ذلك. رغم أن هذه القاعدة صحيحة ولكنها لا تنطبق كليا على الاكتئاب الجسيم السوداوي Melancholic Depression. عبرت شاعرة إنكليزية اسمها إليزابيث باريت Elizabeth Barrett عن عدم القدرة على البكاء مع الشعور بالحزن العميق في قصيدتها الحزن Grief واصفة جميع أعراض الاكتئاب. في عام ١٩١٣ كتب فيلسوف الأعراض النفسية كارل جاسبرز Karl Jaspers ظاهرة الخدر العاطفي وعدم القدرة على البكاء وصنفها كأحد أعراض الاكتئاب الجسيم. يفقد الإنسان القدرة على التلذذ في البداية وينتهي الأمر بعدم قدرته على الشعور بأية عاطفة وهذا ما نسميه بالخدر العاطفي Emotional Numbness.
الخدر العاطفي وعقاقير مضادة للاكتئاب
مع شيوع استعمال العقاقير المضادة للاكتئاب المعروفة بمثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية م.ا.س.ا SSRI بدأت ملاحظة شكوى بعض المراجعين من عدم قدرتهم على البكاء مع استعمال العقاقير. الحقيقة هي أن هذه الظاهرة لا تقتصر على هذا النوع من العقاقير وإنما يشمل ذلك العقاقير القديمة المعروفة بثلاثية الحلقة Tricyclics. يجب توخي الحذر في الاستنتاج القاطع بأن ذلك سببه العقاقير المضادة للاكتئاب وإنما أعراض مترسبة لاكتئاب لم يستجب كلياً للعقاقير.
البكاء والأمراض العصبية
هناك من البكاء الشديد الذي لا تصاحبه عاطفة ولا يستطيع المراجع السيطرة عليه ومصدره شلل العصب العلوي الحركي UPPER Motor Neurone للأعصاب القحفية الأربعة الأخيرة للنخاع المستطيل. يظهر مثل هذا الشلل بعد العقد الخامس من العمر وبسبب البكاء يتم تشخيص المراجع بالاكتئاب. أسباب هذا النوع من الشلل متعددة وجميعها آفات الجهاز العصبي المركزي.
هناك أيضاَ الصرع أحياناً كسبب للبكاء اللاإرادي كما في الصرع الهلامي Gelastic Epilepsy. ويتميز بصرخة البكاء قبل نوبة صرع متعمم، والبكاء بعد النوبة الصرعية، والاكتئاب، ورغم أن صرخة النوبة الصرعية قبل التشنج كثيرة الملاحظة ولكن سلوك البكاء (وأحيانا الضحك) مصدره دوما بؤرة صرعية في الفص الصدغي الأيسر.
واقرأ أيضاً:
التفارق عن الواقع Dissociation from Reality / الهذيان Delirium