لم يشهد الإنسان المعاصر ظروفاً صحية وحجرا منزليا وتقييداً لحركته مثل ما شهده مع جائحة كورونا. يسمع الإنسان يومياً عدد الضحايا وعدد المصابين ويشاهد منحنى الوباء يرتفع وينخفض. يتخذ الإنسان التدابير اللازمة للتسوق ويتجنب الاتصال بالآخرين٬ وإن تحدث معهم فالحديث بأسره حول كورونا وماذا سيحدث. كل ذلك يؤدي إلى الشعور بالقلق المزمن وعدم الاستقرار.
والآن مع بداية ظهور علامات قرب نهاية موجة الوباء الحالية تغيرت الأرقام من عدد الضحايا والإصابات إلى عدد العاطلين عن العمل والركود الاقتصادي وتأثير ذلك على جميع الخدمات الاجتماعية والترفيهية والصحية. كل ذلك بدوره يؤدي الى الشعور بالقلق المزمن والاكتئاب والخوف من المستقبل.
ثم هناك المواقع الاجتماعية المزدحمة بشتى الأخبار والغالبية العظمى منها مزيفة وإطارها نظريات مؤامرة فمنذ اليوم الأول تم رفع رايات أكذوبة فيروس كورونا للسيطرة على البشر من قبل اليمين واليسار السياسي على حد سواء. بالطبع تم توجيه الاتهام لشركات الادوية العملاقة بنشر الفيروس من أجل تصنيع لقاحات وعقاقير٬ ومع انتشار أخبار وجود أكثر من مئة لقاح تحت التجارب ارتفعت شكوك الحركات المعادية للقاحات بصورة عامة.
ولكن هناك صدمة أكبر من غيرها وهي للناس التي فقدت أقاربها بسبب المرض. الكثير منهم انتهى في العناية المركزة والتهوية الاصطناعية لعدة أسابيع وغادروا الدنيا في ظروف استثنائية غير طبيعية تركت بصماتها الرضحية على البشر.
وأخيراً هناك العاملون في القطاع الصحي الذين يتعرضون للفيروس يومياً وشاهدوا بأم أعينهم ماذا حدث ويحدث في الوباء.
أعراض الصدمة النفسية
يتم تقسيم الأعراض التالية للصدمة إلى ثلاث مجموعات عموماً. هناك المجموعة النفسية وتتميز باسترجاع الذكريات المؤلمة. يتم خزن استرجاع الذكريات في عقل الإنسان ولا يتم حذفها لا بالكلام ولا العقاقير وفقط مع ضمور الدماغ وتدميره بسبب عاهة مرضية. هذه الذكريات يتم استرجاعها للتعامل مع الحداد الذي يدخله الإنسان وتدفعه في غالبية الأحيان إلى موقع عاطفي يشعر به بالتنافر، الغضب٬ الاكتئاب، والذنب. هذه الذكريات قد يتم استرجاعها أحياناً على شكل أفكار اجترارية من سؤال وجواب لا تنتهي. استمرار هذه الأفكار الاجترارية كثيراً ما تشير إلى اقتراب الإنسان من اضطراب الاكتئاب الجسيم.
ولكن هناك ذكريات من نوع آخر وبدائي تتميز باسترجاع سريع وجزئي للماضي من رائحة أو صوت أو لون. هذه الذكريات لا تستمر أكثر من ثواني عدة ولكنها أشد ألماً وتأثيراً على الإنسان٬ واستمرارها يؤدي دوماً إلى تشخيص اضطراب كرب تالي للرضح Post-Traumatic Stress Disorder PTSD.
الأعراض الجسدية غالباً ما تدفع الإنسان لاستعمال عقاقير مهدئة للألم والتوجه نحو مراكز الطب العام وعمل فحوصات طبية متعددة. أعراض الألم والرعشة والتعرق قد يكون مصدرها القلق والاكتئاب وعلاج هذه الاضطرابات حتى في المراحل المبكرة من الحداد يساعد الكثير.
المجموعة السلوكية للأعراض لا تختلف في إطارها عن السلوك التجنبي للإنسان الذي يعاني من القلق والاكتئاب. تجنب الآخرين وتجنب الحديث عن المشاعر يدفع الإنسان إلى موقع اكتئابي وعزلة اجتماعية.
الاضطرابات التالية للصدمة
الصدمة بحد ذاتها تؤدي إلى أعراض خاصة بها ولكنها في نفس الوقت قد تكون عاملا مؤرثا لجميع الاضطرابات النفسية، يمكن تقسيم هذه الاضطرابات استناداً إلى المدة الزمنية التابعة للصدمة كالآتي:
- ظهور الذهان بعد ٣ أسابيع.
- ظهور الهوس بعد ٣ -٦ أسابيع.
- الاكتئاب الجسيم بعد ٣- ٦ أشهر.
القاعدة العامة هي أن الأعراض التي تم التطرق إليها الخاصة بالصدمة يتم حصرها في اضطراب تأقلم Adjustment Disorder عند تحسنها خلال ٣ أشهر. يتم تشخيص اضطراب كرب تالي للرضح مع وجود الذكريات الأولية التي تداهم الإنسان أحياناً على شكل كوابيس.
تشخيص القلق والاكتئاب يعتمد على المعايير التشخيصية للاضطرابين بحد ذاتها كما هو موضح في شرح هذه الاضطرابات.
العلاج
التباعد الاجتماعي والحظر الصحي بحد ذاتها أحيانا صدمة لا يقوى البعض على التعامل معها. الأشد من ذلك فقدان الأحبة والمقربين في ظروف استثنائية لم تسمح لهم بالحداد ووداعهم كما يفعل الناس في الظروف الطبيعية. الحديث عن المشاعر والتعبير عنها بكل وضوح هو الخطوة الأولى للتعامل مع الصدمة والحداد.
علاج الاضطرابات النفسية يحتاج إلى التشخيص الدقيق وتقديم العلاج اللازم. هناك من يحتاج إلى عقاقير طبنفسية لعدة أشهر أو أطول٬ ولكن يجب توخي الحذر من الإسراف في استعمال العقاقير المهدئة لفترة طويلة وخاصة في المصابين باضطراب الكرب التالي للرضح خشية الإدمان.
في نهاية الأمر ليس هناك أفضل من السند الاجتماعي الذي يتلقاه الفرد من الأصدقاء والأقارب.
المصادر
اضغط على الواصل في المقال.
واقرأ أيضاً:
الصحة العقلية وكورونا / وعاء الأصدقاء