تقديم "النموذج التربويّ" للأطفال مبنيّ عند بعض الآباء على "النموذجيّة" بمعناها الآخر الذي يعني "المثاليّة". فالنموذج قد نقصد به "ما يُمكن اتّباعُه وتقليده" exemple وقد نعني به الشيء النموذجي "ما يعكس صفات وسمات الشيء كما نريدها أو نتخيّلها" (الصورة الوالدية هنا) exemplaire
المعنى الثاني هو الذّي يحاول الأب/الأمّ تصديره لأولادهم. فمن أجل وضع أُسس تربويّة وتحت تأثير الخوف من انحراف الأولاد، يُخفي الوالدان كل مظاهر الضّعف البشرية ويتكتّمون عن أخطائهم الماضية ويراوغون بخصوص تناقضاتهم، ليُبقوا في الأخير على صورة مثالية يتخلّلها الوعظ والتقويم والتطلّعات الكبيرة اتجاه أولادهم. متطلّبات هم أنفسهم لم يستطيعوا تحقيقها طوال مسيرتهم الحياتية!
في هذه الأجواء التي يُفترض أن تُقدّم للطفل والمراهق عالَما يجدُ فيه نفسه ويفهمها من خلاله، بكل أبعادها وتعثراتها، لا يكاد يتعرّف على "بشريّته" وتقلباته وأطوار نموّه المختلفة. يجد في هذا النموذج كيف ينبغي أن يتصرّف وكيف يتجنّب الخطأ وكيف يكون محبوبا... باختصار كيف يكون "نموذجيّا" وموافقا للصورة المنقوصة التي يُقدّمها والداه له.
أسمع قصصا لا يستوعبها عقلي الصغير، مثل أن تخجل وتتجنّب الأم الحديث مع ابنتها عن دورتها الشهرية، حتّى تُصدَم البنتُ بدماء تجري تحتها! تخيّلوا الصدمة والهلع الذي يصيبك عندما ترى دماء تخرج منك فجأة، والدماء تعبّر عن الخطر في مخيال طفلة صغيرة. هذا كلّه لتتجنّب الأمّ الحديث عن شيء سيُكسّر صورتها كأمّ كاملة لا تخضع للقوانين البيولوجية، أو أمّ فاضلة لا تتحدث عن دم الحيض... ولولا الاكتشاف الضروري للبنت لما حدّثتها بذلك أبدا. أو إنكارها التام لكونها كانت يوما من الأيام مراهقة تُعجب ببعض الشباب (لسان الحال: الحب قبل الزواج! ولد زوين كايعجبني؟ نبكي على ولد القسم!؟... هادشي أبنتي أول مرّة نسمعها)
وتجد الأب في دور القدّيس، لا يُظهر من نفسه ولو ذرّة من "جنسانيّته" وتودّده للجنس الآخر، أو حتّى اكتشافه لأعضائه التناسلية لما كان مراهقا ولو من باب المزاح (الجنس! العادة السريّة؟ غريب هادشي أولدي، أو يدير راسو ما سمعش) .
ونعرف أنّ التحولات الجنسية وتأثيراتها على نفسية وجسد المراهقين شيء يعصف بهم. فينظرون لآبائهم ليلتمسوا بعض الفهم والتوحّد identification فلا يجدون إلاّ نموذجا ملائكيا فارغا يخلو من المعاني التي يبحثون عنها ! معاني الضعف والتصالح، معاني التسامي، كيف ولا يوجد أمامه مَن يبوح بمشكلاته المشابهة وحلولها بصدق وانفتاح!
ثم تأتي بعد ذلك مشاعر الذنب وثقل المسكوت عنه، يحسب الطفل نفسه مجرما وحيدا وغير طبيعيّ. كما اعتقدت تلك الفتاة لما نزَفتْ دماً. أنا لا أدعو هنا للتفاخر بالأخطاء والكوارث التي نريد أن يتجنّبها أطفالنا، بقدر ما أتحدث عن إعطاء نموذج واقعيّ يُلامس تقلّبات الأبناء الطبيعية بين الانهزام والانتصار ضد النزوات والهفوات.
حرص المربين غير الواقعي على تجنيب أطفالهم بعض الأخلاق السيئة لا يعني أن هناك إنسان يُمكنه أن يتجنّبها بالمطلق ! سهل أن نأتي بعد نضج وملل من الحياة ونتحدث عن أخطائنا ونزواتنا بنبرة المترفّع عنها، والأسوء بنبرة البريء منها تماما... هذا سهل جدّا إلاّ أنّه يقتضي تجاهلا تاما للمرحلة العُمرية وللفرق بين تجنب الخطأ نهائيا، وبين تجنّب التمادي فيه (الأول غير ممكن إذا أخذنا بالاعتبار كل أنواع الأخطاء الممكنة )
هناك شيء آخر، هو اعتقاد خاطئ بأنّ الطفل إذا سمع تجربة الآباء قد يُعيدها بنفسه، بغض النظر عن الظروف والدوافع الشخصية التي قد تكون مختلفة تماما عن دوافع وظروف الآباء. لذلك قد نجد أمّا تستميتُ وتخنق بنتها لتُجَنّبها عارا وظروفا تعني للأمّ أكثر من بنتها، في حين قد تغفل عن احتياجاتها الحقيقية ومشاكلها الواقعية.
ربّما يقول البعض على أنّ الأخطاء ستقع لا محالة، فلماذا نقدمّ خطابا ونموذجا رخوا ليزيد من احتمالية وقوعها؟ ومن هنا قد نعود لنقطة البداية، وهو تمثيل القداسة على أولادنا والتشدد التربويّ من أجل "خنق" مُدخلات الأخطاء والانحرافات. لكن ما لا يعرفه البعض أنّ كثرة التضييق قد تعطي نتيجة عكسية، ولا ننسى أنّ دور التربية ليس فقط تلقين الضوابط الأخلاقية، هذا يُحسنه الكلّ، ما لا يحسنه الكثيرون هو بناء شخصية متوازنة متصالحة مع ذاتها، مما يعطي صاحبها القدرة أكثر على التحكم في نفسه وضبطها. وهذا لا يكون بمجرد "افعل لا تفعل"، بل بالاعتراف المتواضع من الآباء بأنّهم بشر ولهم زلاّتهم التي قد لا يفصّلون فيها، لكن من الضروريّ أن يتحدّثوا عنها بالقدر الكافي من الإشارات لتصير قابلة للاستيعاب والتطبيق وتعكس صفات المرحلة العُمريّة المعنيّة. ويُقدّمونها كطبطبة وجوديّة على روح الابن أو الابنة وقت الشّدّة والضيق. لا أن يزمجروا ويمثّلوا دور البريء المقدّس أمام طفلهم المُدنّس.
فإياكم أن تقدّموا نموذجا لا يُمكن نمذجَتُه في أذهان وحياة أولادكم. وتذكّروا أن المفارقة هنا، هي أنّه قد نحرص على "النموذج" حيث لا نموذج من الأساس، (لأنه غير قابل للتطبيق بل قد يكون سببا للتمرّد وكراهية الذات). وأن مجرّد التنازل عن تصدير صورة مثالية مقدّسة عن الآباء قد يقدّم "النموذج الحقيقي".
واقرأ أيضاً:
لية التربّص للكوارث / الثقة بالكبار والتحرّش الجنسي بالأطفال