كثيرًا ما يشعر مرضى الوسواس القهري بالقلق والخوف من الذنوب (خاصة ذات الطبيعة الدينية أو الجنسية) بحيث يبدو أن الشعور بالذنب هو أحد العوامل الرئيسية في اضطراب الوسواس القهري، فهو عامل تنشيط للوساوس ومحفز للقهور ويمثل واحدا من أهم عوامل إدامة الاضطراب، كما يمكن أن يمثل الشعور بالذنب سببا لاستعصاء العلاج أو لانتكاس الحالة بعد العلاج....
وكنا كتبنا مقدمة عن مشاعر الذنب في مرضى الوسواس في فصل تشريح المعاني في كتابنا الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، ونشرناها على مجانين من سمات الموسوسين فرط الشعور بالمسؤولية والذنب واعتبرنا الشعور بالذنب في مريض الوسواس القهري مختلفا عن الشعور بالذنب المعروف في الاكتئاب، ومتأثرين كأغلب الأدبيات والدراسات المهتمة بالوسواس القهري في ذلك الوقت بمفهوم المسؤولية المتضخمة Inflated Responsibility الذي وصفه سالكوسكيس (Salkovskis, 1985) وذاع صيته كأحد أهم الأبعاد المعرفية في فهم وعلاج الوسواس. قلنا في ذلك المقال "أحيانًا يكونُ الشعورُ بالذنب بسبب أن البعض يحمل نفسه مسؤوليةً أكثرَ مما يجب, وتعرف المسؤولية المتضخمة حسب سالكوسكيس وفورستر (Salkovskis & Forrester, 2002) بأنها (الاعتقاد بأن المرء لديه قوة محورية لتحقيق أو منع النتائج السلبية الأكيدة بشكل شخصي. وهذه النتائج واجبة المنع. قد تكون واقعية أي لها عواقب سلبية في العالم الحقيقي، و / أو على المستوى الأخلاقي)، ولعل تأمل هذا التعريف الذي يؤكد على أهمية الاعتقاد بامتلاك القوة أو القدرة يجعل من المنطقي أن نتساءل: إذا كان لدى الفرد 1- تصور متضخم للمسؤولية الشخصية وهدف منع حدوث نتيجة سلبية، ولديه 2- اعتقاد بأن لديه قدرة محورية لمنع النتيجة السلبية أي لتحقيق الهدف، أليس ذلك داعيا للاطمئنان وليس القلق؟ إذن ما السبب الذي يفسر الخوف والقلق الشديد الذي يعانيه المريض؟ وأحد أهم التفسيرات التي يعطيها المريض هو تنبؤ الفرد بعدم استخدام سلطته بشكل صحيح لسبب أو لآخر، وبهذا يكون مذنبًا.... أي أن المحفز وراء القلق الشديد هو الخوف من أن يكون مذنبا (Mancini & Gangemi, 2004)... والأهم من ذلك هو كون البعد التحفيزي المتمثل في الخوف من الشعور بالذنب (وليس تحاشي الضرر لأن المريض لا يعنيه الضرر ما لم يكن مسؤولا عنه) هو المحرك الأهم وراء قناعة المسؤولية المتضخمة في هذه الحالات، ويدعم ذلك الرأي أن معاناة مرضى الوسواس القهري المرتبطة بحدث مؤذٍ تقل جدا عندما لا يكونون مسؤولين عنه، فليست عواقب الكارثة بقدر ما هو الخوف من المسؤولية عنها، فهل الخوف من الشعور بالذنب يمكن أن يمثل عاملا تحفيزيا آخر للوسواس القهري كما في تحاشي الضرر وشعور اللااكتمال ؟ دعونا نتعمق في الموضوع أكثر لنعرف.
ما هو الشعور بالذنب ؟
إذا أردنا مناقشةَ مفهوم الشعور بالذنب في حد ذاته فإننا نستطيعُ تعريفهُ أولاً بأنهُ "شعورٌ بغيضٌ واعٍ يشملُ لومَ النفس والندم على أفكار أو مشاعر أو أفعال الشخص مع إحساس بالإثم، لأن الشخص انتهكَ مبدأً أخلاقيا ما". وهناك نوعان مختلفان من الشعور بالذنب هما شعور الذنب الإيثاري Altruistic Guilt وشعور الذنب الأخلاقي Deontological Guilt ففي الحالة الأولى يمكننا أن نشعر بالذنب دون تجاوز المعايير الأخلاقية، ولكن من خلال انتهاك مبادئ شخصية مثل الإيثار (أي الذنب الإيثاري)، كما يمكننا أن نشعر بالذنب لتجاوزنا المعايير الأخلاقية حتى لو لم يكن هناك ضحية (أي الذنب الأخلاقي). ويمكن أن يوجد أيُّ هذين النوعين من الذنب بشكل مستقل، كما يمكن أن يوجدا معا.
هناك أمثلة كثيرة على الشعور بالذنب الإيثاري مثلا الناجي من حادثة مات فيها أحد أو كل رفقائه، صاحب نتيجة فحص كوفيد19 أو الإيدز السلبية تجاه رفيقه صاحب النتيجة الموجبة رغم أنهما كانا معا وتعرضا معا، وحتى الطالب الناجح تجاه صديقه الراسب، وعادة ما يقابل هذا النوع من مشاعر الذنب اجتماعيا باعتباره رقيا خلقيا وإنسانية نقية.... بشرط ألا يتعدى حد الإمراضية النفسية أي التأثير على أداء الشخص وصحته العقلية كما يمكن أن يحدث في حالات الاكتئاب الجسيم Major Depression وفي حالات اضطراب الكرب التالي للرضح (أو الصدمة) PTSD على سبيل المثال.... والمهم هنا أن نلاحظ اشتراط وجود ضحية أو ضحايا.
وأما الشعور بالذنب الأخلاقي فيتعلق بانتهاك المبادئ الأخلاقية وأسبابه بالتالي تختلف من ثقافة لأخرى، ورغم إمكانية شعور البعض به في الثقافات الغربية العلمانية بسبب انتهاك قواعد القانون الوضعي في موقف ما (دون وجود ضحايا) باعتباره مرجع الأخلاق إلا أن العبارة التي تستخدمها الأدبيات العلمية في موضوع الشعور بالذنب الأخلاقي هي "لا تقم بدور الإله" (Sunstein, 2005)، والحقيقة أن الأمر مختلف عند الشعوب المؤمنة بحيث نجد الخوف من فعل ما يغضب الإله أي "لا تغضب الإله" أكثر بكثير من الخوف من القيام بدور الإله، فأسباب هذا النوع من مشاعر الذنب تكون كثيرة، كما يتميز بها المتدينون عن غيرهم فكلما فعل المؤمن ذنبا فقد أغضب الإله، وأحسب أن وصف هذا النوع من الشعور بالذنب بالتديني بدلا من الأخلاقي يكون أكثر دلالة عليه في مجتمعاتنا....
وبينما يحتاج ضرب مثال للشعور بالذنب الأخلاقي في الأدبيات الغربية الوصول إلى مستوى القتل الرحيم، فإن الأقرب إليه في مجتمعاتنا وهو الشعور بالذنب التديني يظهر بوضوح في مستوى أبسط بكثير إذ يتعلق بالنشاط الجنسي مثلا منذ الرشد المبكر، وبغيره من الذنوب واقعية أو متخيلة... وغالبا يكون بسبب انتهاك قاعدة "لا تغضب الإله"، وإن وجدت عندنا كذلك أمثلة على انتهاك قاعدة "لا تلعب دور الإله" أبسط من القتل الرحيم كمن يقسم ميراثه حيا ليوزع بما يخالف التقسيم الديني فيشعر أنه "لعب دور الإله" ويظهر الجدول التالي مقارنة بين نوعي الذنب المختلفين، بداية من الأسباب المختلفة مرورا بالضحية والتمثيبل الدماغي المختلف لكل منهما فبينما أظهرت دراسات التصوير الوظيفي نشاطا أكثر في المنطقة الإنسية من الفص الجبهي Medial Prefrontal Areas في المارين بخبرة الذنب الإيثاري فقد أظهرت نشاطا أكثر في الجزيرتين والقشرة الحزامية الأمامية Insulae & Anterior Cingulate Cortex في حالات الذنب الأخلاقي وتمثيل النوع الأخير من الذنب في هذه المناطق بما يفسر علاقته الأوثق بكل من التقزز ولوم الذات.
الذنب الأخلاقي | الذنب الإيثاري | البند |
انتهاك المعايير الاجتماعية (الأخلاقية) (الدينية؟) | انتهاك مبادئ شخصية كالإيثار | السبب المفجر |
لا يشترط وجودها | يشترط وجودها | الضحية |
الجزيرتين والقشرة الحزامية الأمامية | الفص الجبهي الإنسي | التمثيل الدماغي (Basile et al., 2011) |
+++++++++++++ | +++ | لوم الذات |
+++++++++++++ | +++ | الاشمئزاز Disgust |
الوسواس القهري والاكتئاب | الاكتئاب والكرب الرضحي | الارتباط باضطراب |
الشعور بالذنب التديني :
يبدو الشعور بالذنب التديني مختلفا، ليس مطابقا تماما لمفهوم الشعور بالذنب الأخلاقي، فمثلا هو أشمل من ناحية اعترافه بقدرات الإنسان المعين واختلافاته وحالاته، كما تجدر الإشارة إلى أن عتبة الشعور بالذنب التديني تختلف من إنسان لآخر ، وربما في الإنسان نفسه من وقت لآخر وحسب مدى التزامه بقواعد دينه، ففي الكتابات الدينية، يتعلق الذنب عادة بانتهاك التعاليم أو القواعد والأنظمة والقوانين الإلهية لدين أو كنيسة أو مذهب معين (Salzman, 1974)، وعادة ما تتعلق القواعد والقوانين لا فقط بما بين الإنسان ورربه وإنما كذلك بكل تعاملاته مع الآخرين وهذا ما يجعل مفهوم الذنب التديني متسعا ليشمل الذنب الإيثاري حيث تحث كل الأديان السماوية على إحسان معاملة الآخر، ربما بتفضيل واستحباب سلوك معين أو بأن تربط الإساءة أو الظلم للآخر بالذنب بدرجاته المختلفة ...إلخ، وتبدو الأديان في ذلك واضحة... وفي حين يصف علم الأحياء التطوري الشعور بالذنب كعنصر من مكونات "الإيثار المتبادل"، أي أنه شعور مفيد لأنه ينظم السلوكيات التي تحافظ على العلاقات الاجتماعية. (Trivers, 1971) أي أن الشعور بالذنب البيشخصي Interpersonal Guilt (الإيثاري) حسب نظرية التطور هو شعور تكيفي ويحمي البشر من بعضهم البعض ولذلك يتطور ويستمر، نجد أن الأديان قدمت الدساتير السلوكية المختلفة جاهزة لأتباعها وربطت انتهاكها بالذنوب، وضم مفهوم الذنب التديني الصحي كلا من الذنوب في حق الآخرين إضافة إلى ذنوب فعل ما يغضب الإله..... والأهم من ذلك في مفهوم الشعور بالذنب التديني هو إتاحة التوبة أي إلغاء الذنب والحصول على الغفران والمتاح لكل المؤمنين ولعله لذلك أكثر إنسانية من الشعور بالذنب الأخلاقي الذي أفرزته محاولات الفهم العلمية الأولى، ولهذا كله فإنني أرى أهمية التفريق بين ما يسمى الذنب الأخلاقي والذنب التديني وإن لم يحدث ذلك حتى الآن بوضوح على الأقل في الأدبيات المختصة بموضوع الشعور بالذنب سواء من الناحية الاجتماعية أو الإمراضية النفسية المرتبطة به.
يقودنا ذلك إلى الحديث عن الشعور بالذنب التكيفي Adaptive Guilt مقابل الشعور بالذنب المرضي Pathological Guilt فبينما الأول يعمل على إعلام الشخص بأنه أخطأ أي أساء لشخص آخر أو انتهك معيارًا شخصيًا ويكون التصحيح مناسبًا له بالاعتذار أو الاستغفار، فإن شعور الذنب المرضي مثلا يدفع إلى الحاجة الشديدة إلى اليقين بشأن حدث "عادي"، وغالبا لا يكون تصحيحه ضروريًا ولا مناسبًا، لكنه يدفع الشخص إلى طلب الطمأنة وتكرار طلب الطمأنة بشكل قهري إلى الحد الذي يخرب علاقته بالآخرين بدلا من صيانتها، أو قد يدفعه إلى الإسراف في لوم الذات Self-Reproach ومشاعر اللا أهلية Worthlessness واعتزال الحياة وصولا إلى الاكتئاب الجسيم.
وبينما في السياق الديني تقوم الطقوس الدينية بوظيفة معالجة الذنب وغفرانه وإن اختلفت الإجراءات من دين لآخر، فإن العلاج النفساني الإكلينيكي يهدف إلى تحديد شعور الذنب المرضي، الديني أو غير ذلك، وتوفير الوسائل لجعله طبيعيا، لكل من السياقين الديني والإكلينيكي فوائده وقيوده (Shapiro & Stewart, 2011)لذلك فكثيرا ما يحتاج المريض إلى معطيات معرفية دينية وهو يعالج إكلينيكيا، وكثيرا ما تعجز المقاربة الدينية عن علاج المريض لحاجته إلى التدخلات العلاجية الأخرى.
المراجع:
1-Salkovskis, P. M. (1985). Obsessional–compulsive problems: A cognitive–behavioural analysis. Behaviour Research and Therapy, 28
2- Salkovskis, P. M., & Forrester, E. (2002). Responsibility. In R. O. Frost, & G. Steketee (Eds.), Cognitive Approaches to Obsessions and Compulsions. Oxford: Pergamon. https://doi.org/10.1016/B978-008043410-0/50005-2
3- Sunstein, C. (2005). Moral heuristic. Behavioral and Brain Sciences, 28, 531–573. https://doi.org/10.1017/S0140525X05000099
4- Basile B, Mancini F, Macaluso E, Caltagirone C, Frackowiak R, Bozzali M (2011) Deontological and altruistic guilt: evidence for distinct neurobiological substrates. Hum Brain Mapp 32(2):229–239
5- Salzman L (1974) Guilt. Ment Health Soc. 1974;1:313-319. Salzman L. Guilt. Ment Health Soc. 1974;1:313-319
6- Trivers RL. (1971). The evolution of reciprocal altruism. Q Rev Biol. 1971;46:35-37
7- Shapiro L.J & Stewart E (2011). Pathological Guilt: A Persistent Yet Overlooked Treatment Factor in Obsessive-Compulsive Disorder. Annals of Clinical Psychiatry 23(1):63-70
واقرأ أيضًا:
شعور اللاّكتمال وخبرات ليس صحيح تماما خ.ل.ص.ت NJREs / الخرافة والوسواس القهري ما العلاقة ؟2