الشعور بالذنب في مرضى الوسواس القهري1
الشعور بالذنب والوسواس القهري
لعل أولى الإشارات العلمية العلاجية إلى علاقة الشعور بالذنب باضطراب الوسواس القهري جاءت في أدبيات التحليل النفسي، فهو نتيجة طغيان الأنا الأعلى وقيوده الصارمة، بسبب التربية القاسية الصرامة (Comer, 2001)، كما تكررت الملاحظة الإكلينيكة لمشاعر الذنب وفرط الخوف من الذنب في مرضى الوسواس القهري لعقود لكن الدراسة العلمية لشعور الذنب ودوره في مرضى الوسواس القهري بدأت فعليا في العقدين الأخيرين، هناك كثير من الأدلة العملية والإكلينيكية التي تظهر بوضوح علاقة الشعور بالذنب (أو بالأحرى الخوف منه) باضطراب الوسواس القهري، فضلا عن أن حالة الشعور بالذنب تؤدي إلى تنشيط الدماغ في مناطق قريبة من المناطق المرتبطة بالوسواس القهري (Takahash et al., 2004)، ورغم اختلاف مسميات ما تدرس علاقته باضطراب الوسواس القهري وأعراضه المختلفة مثل فرط الشعور بالمسؤولية Inflated Responsibility ومثل فرط النزوع للشعور بالذنب Inflated Guilt Propensity أو فرط الحساسية للشعور بالذنب Sensitivity to Guilt فهي أوجه مختلفة لنفس الشيء وقد ظهر أن زيادة أي منها ترتبط بأعراض الوسواس القهري وأن العوامل التي تؤثر في تلك الأبعاد زيادة أو نقصانا تؤثر في أعراض الوسواس في نفس الاتجاه، وكذلك أظهرت الدراسات أن هذا الارتباط مع مشاعر الذنب خاص باضطراب الوسواس القهري مقارنة باضطرابات القلق على سبيل المثال، وتعتبر الحساسية للشعور بالذنب أو بالأحرى الطريقة التي يتعامل بها مريض الوسواس القهري معرفيا وسلوكيا مع الشعور بالذنب هي العامل الأوضح لأن المريض يشعر بتهديد شديد لكيانه من الشعور بالذنب مقارنة بغيره سواء من الأصحاء أو مرضى اضطرابات القلق (Melli, et al., 2017)
وتبين متابعة الأدبيات العلمية كيف تطور مفهوم تضخم المسؤولية المرتبط بالوسواس القهري من تعريف سالكوسكيس المذكور أعلاه إلى أن ما يدفع مريض الوسواس القهري ليس شعوره المتضخم بالمسؤولية كما رأى سالكوسكيس بقدر ما هو الخوف من التصرف بلا مسؤولية وليس تحاشيا للنتيجة السلبية المخشية كما رأى سالكوسكيس وإنما تحاشيا للشعور بالذنب الأخلاقي (Mancini & Gangemi, 2004) ، وتحولت دراسة دور الشعور بالذنب من التركيز على فرط النزوع للشعور بالذنب كسمة Trait Guilt إلى فرط الحساسية للذنب كحالة State Guilt يبرز فيها تعامل مريض اضطراب الوسواس القهري بشكل واضح الاختلاف عن غير المرضى.
التصوير الوظيفي للمخ والوسواس والذنب :
أظهرت بعض دراسات التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (fMRI) أن مرضى الوسواس القهري الذين يخضعون لمهمة تستفز أعراض الوسواس يحدث لهم تنشيط في مناطق من الدماغ (القشرة الحزامية الأمامية والجزيرة) (Mataix-Cols et al., 2005) مماثلة لتلك التي يتم تنشيطها في الأفراد الأصحاء الذين يمرون بخبرة الشعور بالذنب الأخلاقي (Basile et al., 2013) ويشير هذا التداخل إلى أنه أثناء استفزاز الأعراض فإن مرضى الوسواس يمرون بخبرة الشعور بالذنب الأخلاقي، كما أظهرت دراسة (D’Olimpio and Mancini, 2014) قارنت بين مجموعتين إحداهما تم إشعارهم مختبريا بالذنب الأخلاقي والأخرى بالذنب الإيثاري وأظهرت النتائج أن المشاركين في مجموعة الذنب الأخلاقي كانت لديهم شكوك أكبر وانزعاج أكبر، وقاموا بفحص وتنظيف مكعب زجاجي مرات أكثر من المشاركين في مجموعة الذنب الإيثاري.
الشعور بالذنب في وسواس الكفرية
ولعل أوضح أنواع الوسواس القهري ارتباطا بالشعور بالذنب هو الوسواس القهري الديني المتعلق بالأفكار التي لا يمكن تحمل وجودها في الوعي لأن وجودها في حد ذاته في وعي الفرد يمثل ذنبا في رأيه، وأوضح الأمثلة وأكثرها انتشارا في مجتمعاتنا هي وسواس الكفرية (الأفكار أو الصور أو الألفاظ أو المشاعر التي تحمل معنى الكفر أو ترتبط به في ذهن المريض) فمشاعر الذنب والخوف من عقاب الله في هذه النوعية من الوساوس تمثل المحور الرئيس الذي يدور حوله المريض ما بين وساوس الكفرية وطقوس التبرئ والتطهر منها، وللتوضيح يمكنكم متابعة هذا الواصل عن وسواس الخروج الدخول في الدين.
الشعور بالذنب والوساوس الجنسية
كذلك تلاحظ مشاعر الذنب المتضخمة في مرضى الوسواس القهري ذي المحتوى الجنسي وأحيانا كثيرة يرتبط ذلك بمحتوى كفري من خلال ربط مشاعر أو تخيلات جنسية معينة بتصور عقلي لشيء مقدس أو لرمز ديني، أو لحدوث مشاعر جنسية أثناء الوساوس الكفرية، كما يمكن أن تنشأ مشاعر الذنب في من يعانون من وساوس جنسية تجاه المحارم أو أحد الرموز الدينية أو تجاه أشخاص من نفس الجنس.. إلخ، كذلك ترتبط مشاعر الذنب العميقة مع ممارسة الاستمناء أو الاسترجاز... وكثيرا ما نرى في الذكور من مرضى الوسواس القهري المتورطين في تلك الممارسة نوعا من الوسواس المتعلق بانتشار الحيامن ووصولها إلى الأم أو الأخت مما ينتج عنه حمل !! وكذا الانتشار السحري لنجاسة المني حيث يتصور المريض أن قطرة من المني تسببت في نجاسة كل البيت وربما كل المدينة ...إلخ، ولعل الاستشارات التالية تساعد في إيصال المفهوم:
وسواس زنا المحارم، الشذوذ ثم الضعف الجنسي
وسواس اشتهاء المحارم : انتبهوا قبل الفتوى !
وسواس جنسي تجاه المحارم هل من علاج
أختي أم بنتي ؟ : أمي حملت مني ! وسواس قهري
الشعور بالذنب والوساوس التعمقية
ويلي وسواس الكفرية الوسواس القهري الديني التعمقي Scrupulous OCD والتعمق Scrupulosity خاصية معرفية شعورية تميز بعض مرضى الوسواس القهري ولها صفاتها الفريدة كما تشترك في بعض الصفات مع خصائص معرفية أخرى لمرضى الوسواس، فنجد مشتركا مع غيرهم من المرضى الكمالية الدينية (الخوف من عدم الوصول إلى الإحسان 100٪ في الأداء الديني) وربط ذلك بالتقصير والذنب، كما نجد عدم تحمل اللايقين (عدم التيقن 100% أو الشك)، كما نجد الشعور بعدم اكتمال أو عدم صحة الأفعال، وصلابة أكثر للقناعات (الدينية أصلا في نظره)، وأخيرا شيوع التفكير السحري، وخاصة قانون الانتشار اللامحدود، فيما يتعلق بالنجاسة، والخطايا أو الذنوب والمال الحرام...إلخ.
كما نجد مميزا للوسواس القهري التعمقي عن غيره :
(1) التشدد الديني كما يظهر في الميل إلى اعتبار أو توقع : المفاهيم والواجبات الدينية السهلة مهاما شاقة صعبة، و"الله" كقاض قاس مدقق وليس كوالد رحيم !!، والواضح الاكتمال والصحة كغير مكتمل غير صحيح، وكذا اعتبار الطاهر من الأشياء غير كامل الطهارة أو نجس.
(2) فرط الحساسية للذنوب مع تقييم مبالغ فيه للأثر الديني للذنوب، والتقليل من أثر التوبة أو صلاحيتها، وكذا الإفراط في محاولة تنقية الإيمان والأموال، ورفض الأخذ بالرخص الدينية فما دام يستطيع يجب أن يفعل ! وأيضًا النزوع للشعور بالذنب وفرط الشعور بالمسؤولية.
لذلك فغالبًا ما يحول المتعمقون الطقوس الدينية إلى طقوس قهرية، فتشمل تكرار الصلاة أو الأذكار أو الاعتراف بهدف طلب الغفران أو أدائها كأفضل ما يكون، وكذا تكرار التطهير/الغسل، ومعاهدة الله، وسؤال الفقهاء أو رجال الدين المعين، وتجد المريض دائما يسعى إلى غاية لا تدرك فيما يتعلق بالفعل الديني بما يدفع إلى الشك والتكرار والشعور المقيم بالنقصان، وبينما تهدف الصلاة الدينية إلى تعزيز الممارسة الصحية للإيمان من خلال خلق لحظات من التفكير الهادئ والشعور بالمعنى في الحياة، فإن ما يؤدي إليه التعمق في الطقوس والأسئلة الدينية هو حالة مذرية على المستوى النفسي والاجتماعي، كما يمكننا أن نستنتج من قراءة الجزء الثالث من تصنيف أعراض الوسواس القهري الدينية في المسلمين: المقترح، كما تظهر نماذج الاستشارات في هذا الواصل ذلك
الشعور بالذنب في مرضى و.ت.غ.ق :
وأما طقوس الغسيل والتنظيف الواضحة جدًا في مرضى و.ت.غ.ق وعلاقتها بمشاعر الذنب فموضوع قديم جدًا قدم وجود الإنسان ويعبر عن ارتباطات ثقافية بين الغسيل والتطهر من الذنوب، وتوجد شهادات في العهد القديم [إنجيل لوثر ، مزمور 26: 6: صلى الملك داود، "أغسل يدي بالبراءة وأتجول في مذبحك يا رب"]، في العهد الجديد [إنجيل لوثر، متى 27: 24: بيلاطس البنطي يغسل يديه ببراءة]، أو في مسرحية ويليام شكسبير ماكبث: "هل ستكون هذه الأيدي نظيفة على الإطلاق؟" (السيدة ماكبث بعد مقتل الملك دنكان، وهي تحاول، في عذابها، إزالة المواقع المفترضة)، (Geissnera, et al., 2019) وهذا الأخير يعرف بتأثير ماكبث Macbeth effect في الأدبيات، ويعني أن الغسيل المادي يزيل الشعور العقلي بالذنب.
كما أن مرضى و.ت.غ.ق ترتبط أعراضهم بشكل خاص بانفعال التقزز أو الاشمئزاز مقارنة بغيرهم من مرضى أشكال الوسواس الأخرى، ونجد النشاط الدماغي في مرضى و.ت.غ.ق عند إشعارهم بالتلوث يشتد في المناطق المسؤولة عن التقزز (القرف) أي الجزيرة الأمامية خاصة اليمنى وهذا يشترك مع مناطق الشعور بالذنب الأخلاقي، أي أنهم يعانون ليس فقط خوفا من التلوث واشمئزازا وإنما شعورا بالذنب الأخلاقي كذلك، كذلك فإن الرابط بين مشاعر الذنب والشعور بالتقزز تجاه الذات بسبب التلوث المعنوي قديم وعلاقة ذلك بالغسيل كطريقة لإزالة الذنب هو بمثابة الغني عن البيان.
الشعور بالذنب في مرضى و.ش.ت.ق :
وأما مرضى وسواس الشك التحقق القهري فإن علاقته بالذنب تكرر إثباتها في دراسات كثيرة جدا وإن تحت مسمى آخر هو مسمى فرط الشعور بالمسؤولية وبدأت تلك الأبحاث منذ اقترح سالكوسكيس Salkovskis سنة 1985 أنه في حالة الوسواس القهري تدور هذه الأفكار "حول المسؤولية الشخصية، وأن حدوث خطأ ما يعني إخفاق الشخص في منع حدوثه" ثم ذهب إلى القول بأن العامل الرئيسي في الوسواس القهري هو اعتقاد الشخص المتضخم في مسؤوليته عن منع الأذى الجسيم للآخرين أو النفس (Salkovskis, 1985) وكما بينا سابقا فإن هذا المفهوم تطور حديثا إلى مفهوم الخوف من الذنب خاصة بعدما تكرر إثبات أن أعراض المريض تخف حدتها جدا ليس عندما يعرف أن الحدث المؤسف المخشي لم أو لن يحدث وإنما عندما يعرف أنه غير مسؤول بغض النظر عن حدوثه من عدمه، فهذا يعني أن المريض غير مهتم بعواقب الحدث أو آثاره وإنما بأن لا يكون مقصرا في تحمل مسؤوليته أي ألا يكون مذنبا.
إذن فالواقع أن كافة أشكال الوسواس القهري أمكن إرجاعها على الأقل جزئيا إلى الخوف من الشعور بالذنب الأخلاقي (Mancini, et al., 2009) و(D’Olimpio et al., 2014) سواء كان ذلك بين مرضى التحقق القهري و.ش.ت.ق، أو الغسيل القهري و.ت.غ.ق أو اللا اكتمال التكرار القهري و.ل.ت.ق. لأن أعراض كل هؤلاء المرضى أمكنت زيادتها في الدراسات عندما تم إشعارهم مختبريا بالذنب الأخلاقي مقارنة بالذنب الإيثاري..... ومعنى ذلك أن فرط الشعور بالذنب الأخلاقي يمكن أن يمثل سمة تميز المعرضين للوسواس القهري بشكل عام، كذا فإن فرط الحساسية للذنوب Guilt Sensitivity خاصة للذنب الأخلاقي (وربما التديني) وما يستتبعه من عظم وقع الذنب في النفس وشعور طاغ بأن الخطأ غير قابل للإصلاح يمثل طريقة الإدراك والتعامل مع الشعور بالذنب في الشخص الموسوس (Melli, et al., 2017)، وطبيعي أن يؤدي ذلك إلى فرط الخوف من الشعور بالذنب أو تحاشي الشعور بالذنب Guilt Avoidance والذي يمكن أن يمثل عامل تحفيز لأعراض الوسواس القهري تختلف شدته وأهميته بين أنواع أو عروض الاضطراب المختلفة فيكون اللاعب الأساسي في حالات الوسواس القهري الديني التعمقي وبعض حالات و.ش.ت.ق كما يبدو كلاعب مشارك في حالات و.ت.غ.ق إلى جانب الخوف من الاشمئزاز (التقزز أو القرف) كما يبدو مشاركا في حالات وسواس اللااكتمال التكرار القهري و.ل.ت.ق فهناك ما يشير إلى أن الإشعار المختبري بالذنب يؤدي إلى زيادة خبرات أو إدراكات ليس صحيح تماما أو إ.ل.ص.ت (NJREs) في غير المرضى(Mancini, et al., 2008)، حيث تزيد حالة الشعور بالذنب المحدثة في المعمل من حدوث خ.ل.ص.ت كما يظهر ذلك بصورة أشد كلما زادت نزعة الشعور بالذنب لدى الفرد.
المراجع :
1- Comer RJ. (2001). Klinische Psychologie. Heidelberg: Spektrum; 2001.
2- Takahashi, H., Yahata, N., Koeda, M., Matsuda, T., Asai, K., & Okubo Y. (2004). Brain activation associated with evaluative processes of guilt and embarrassment: an fMRI study. Neuroimage, 23, 967–974.
3- Melli G, Carraresi C, Poli A, Marazziti D, and Pinto A (2017). The role of guilt sensitivity in OCD symptom dimensions. Clin Psychol Psychother 2017; 1–11
4- Mancini, F., & Gangemi, A. (2004). Fear of guilt of behaving irresponsibly in obsessive-compulsive disorder. Journal of Behavior Therapy and Experimental Psychiatry, 35, 109–120.
5-Mataix-Cols, D., Rosario-Campos, M. C., & Leckman, J. F. (2005). A multidimensional model of obsessive–compulsive disorder. American Journal of Psychiatry, 162, 228–238.
6- Basile, B., Mancini, F., Macaluso, E., Caltagirone, C., & Bozzali, M. (2013). Abnormal processing of deontological guilt in obsessive–compulsive disorder. Brain Structure and Function, 219(4), 1321–1331.
7- Geissnera E, Knechtlb LM, Baumertc A, Rothmundd T, and Schmitte M (2019). Guilt Experience in Patients with Obsessive-Compulsive Disorder. Verhaltenstherapie, DOI: 10.1159/000503907.
8- Salkovskis, P. M. (1985). Obsessional–compulsive problems: a cognitive-behavioral analysis. Behaviour Research and Therapy, 23, 571–583.
9- D'Olimpio, F., & Mancini, F., (2014). Role of Deontological Guilt in Obsessive-Compulsive Disorder-Like Checking and Washing Behaviors. Clinical Psychological Science, 2, 6, 727-739.
10- Mancini, F., Perdighe, C., Serrani, F.M., & Gangemi, A. (2009). Current Targets in ObsessiveCompulsive Patients. Psicoterapia Cognitiva e Comportamentale, 15, 353-363.
11- D’Olimpio, F., Cosentino, T., Basile, B., Tenore, K., Gragnani, A. & Mancini, F., (2013). Obsessive-Compulsive Disorder and Propensity to guilt feeling and to disgust. Clinical Neuropsychiatry, Vol.10 (3) suppl.1 pp 20-39
12- -Mancini, F., Gangemi, A., Perdighe, C., & Marini, C. (2008). Not just right experience: Is it influenced by feelings of guilt? Journal of Behaviour Therapy and Experimental Psychiatry, 39, 162-176. https://doi.org/10.1016/j.jbtep.2007.02.002
واقرأ أيضًا:
وسواس العد القهري Compulsive Counting / الخرافة والوسواس القهري ما العلاقة ؟2