هناك مفهومان للكذب:
1- كذب يُخالف الصّدق، وهو المتعلّق بالأخلاق، وفيه تكون المؤاخذة من الدين، القانون والمجتمع.
2- كذب يخالف الواقع، وهو متعلّق بما هو معرفي (إبستمولوجي) علمي أو منطقي.
بكلمات أخرى الكذب الأول هو إخفاء لشيء نعلم أنّه موجود (سواء كانت فكرة أو سلوكا)، لذلك هو محلّ مساءَلة أخلاقية.
أما الثاني فهو جهلنا بشيء لا نعتقد أنه موجود فلا نجد حرجا في إنكاره، أو نعتقد أنّه موجود فلا نجد حرجا في إثباته وهو منتفٍ.
طيب. إلى هنا كلّ شيء تمام.
لكن كيف يتعامل الناس معهما؟
سنجد النوع الأوّل محلّ مقت وتجنّب من الكثيرين وهذا جيد. أمّا النوع الثاني مشكلته أنّه قد يُمارس من أشدّ الناس ورَعا وتديّنا وأخلاقا دون أن يشعر بذرّة خزي أو ذنب. بل قد يكون خبزَه اليوميّ في دعوته أو توجّهه أو خطاباته التي يراها أخلاقية ومعقولة جدا، بل في نظره قد تعكس حكمة إلهية وتقريرا ربّانيا وجزء من التديّن والتقرب إلى الله. (أترك لخيالكم وتجاربكم مهمّة استحضار الأمثلة)
وهنا تبدأ المشاكل على مستوى الأمم والشعوب ومسيرتِهم الفكريّة، فرغم أنّ الكذب الأول سيء وقد يصل لدرجات مدمّرة حسب الموضوع (النصب، الخيانة...) أو المدَى (سياسيا وإعلاميا مثلا) لكن الحسّ الأخلاقي عند الناس يضمَن قمْعَه وتقزيمَه ويُهاجم أصحابَه وينبُذُهم، فهو واضح من جهة، ومن جهة أخرى تأثيره لا يدوم كدوام تأثير الكذب على الواقع.
أما الثاني فهو كالثعلب بثوب الواعظ، مُرحّب به دائما، ومن ينتقده يتعرّض للسب والسّخرية، لأن الحسّ الأخلاقي لا يكفي لكشفه، بل إنّ الحس الأخلاقي يكون أحيانا العائق الأكبر لاكتشافه (لا يتّسع المقام لضرب الأمثلة)
إضافة (وهذا الشيء المهمّ) إلى أنّ معرفتَه ليست تلقائية، بل تحتاج معارفَ واجتهادا وثقافة معيّنة لا توجد عند معظم الناس، فضلا عن كونها صادمة لرومانسية الكثيرين.
من هنا قد تفهمون كراهية ومقت الذين لديهم آليات أفضل وأمتن لفهم الواقع للذين يكذبون عليه، فكما يرى الناس "واقعة" ويمقتون من يكذب عليهم فيها لأنها واضحة في رأيهم، كذلك يرى النوع الأول من يكذب على "الواقع" دجّالا مُدلّسا لأن الواقع عندهم أوضح وأسطع من الكذب والالتفاف عليه.
لكن للأسف حضور الاستبصار في الثانية ضعيف جدا لدرجة يسهُل معها التهليل والتصفيق للدجّالين ونبذ مخالفيهم.
واقرأ أيضاً:
حجة الأسباب النفسية للإلحاد ! / هل هناك فرق بين العشق والحب