لمن ينصح بهذا الكتاب؟
لكل عربي يخشى على هُويته الناطقة.
عن الكتاب
يتحور الكتاب -اللغة هوية ناطقة- حول التوصيف الدقيق لطبيعة العلاقة بين اللغة والهوية، والمزج بينهما على نحو يسهم في الحد من المشكل الثقافي واللغوي المترتب على ما يسمى بـ (معضلة الهوية) أو (أزمة الهوية)، التي تنال منا جميعاً، عقلاً ووجداناً وروحاً وإنتماء وفاعلية، في سياقات نؤمن فيها أن اللغة عامل محوري في تشكيل هويتنا.
عن المؤلف
أ. د عبدالله البريدي، أستاذ الإدارة والسلوك التنظيمي، جامعة القصيم. يؤمن بحتمية الإبداع كشرط للتحضر الحقيقي، ويعتقد بأن الإبداع يجب أن ينبثق من (الأنفة الثقافية)، كما يؤمن بأن الثقافة (صدق مُمنهج).
ماذا سنتعلم من هذا الكتاب؟
تعريف اللغة بلا هوية.
تعريف الهوية بلا لغة.
الامتزاج الوشائجي بين اللغة والهوية.
مزج اللغة بالهوية.
انتهاكات هويتنا الناطقة.
المقدمة
إن اللغة والهوية مسألة متشابكة، معقدة، قديمة، ومتجددة، وقد شبه أحد الباحثين العرب، المشتغل على هذه المسألة كمن (يتحرك في حقل من الألغام). إن التعداد اللغوي والهمجي على كافة الواجهات، يهيمن على المشهد اللغوي العربي، مما يجعل اللغة العربية تعيش حالة من الانحسار وانعدام الوظيفية وغياب التداول. أصائب ما قاله الرسام الألماني – السويسري بول كلي: أنا هو أسلوبي، أم أن الصواب: أسلوبي هو أنا، اللغة ونحن، من يشكل من؟
يُذكر أن مركزاً عربياً عقد مؤتمراً علميا، شارك فيه عدد من العلماء والمفكرين والباحثين وجامعات من مُختلف الأقطار العربية، وقد ناقش المؤتمر مسارين: مسار عن اللغة والهوية، وآخر عن التنمية المستدامة. وكان الحضور والتفاعل والنقاش الأكثر في مسار (اللغة والهوية)، وكان مستوى اللغة المتداولة في باحتي المؤتمر صاعقاً، فقد رُزِيّت باحة التنمية بلغة عربية مكسرة ومشوهة، وغُيبت اللغة العربية في الساحة الاصطلاحية وفي استعمال الكلمات العادية، فبعض الباحثين العرب كانوا -مثلاً- لا يقولون (فاصلة)، بل comma، ولا يقولون: (سطر) بل Line، وهكذا. وهذا المشهد يجعل القارئ يتساءل قائلاً: أيها العرب، أليس هذا مؤشراً على أنه لا تنمية عربية قبل حل المشكل اللغوي الثقافي؟ أم أنه لا ارتباط بين التنمية واللغة (الهوية)؟.
تعريف اللغة بلا هوية
أن باب اللغة مخلوع، إذا هي لم تدخر من قوتها اللفظية والدلالية ما يكفي لإنجاز تعريف مقبول لها، بل راحت توزع قوتها على عدة جبهات، الأمر الذي جعلها تخسر معركة التعريف، فنحن إزاء مئات التعريفات المتناثرة في بطون الكتب والأبحاث، سواء تعريفات قديمة أو جديدة. ولم يتم اتباع مظان هذه التعريفات.
يعتبر علماء اللغة، أن وظيفة اللغة ركناً محورياً في تعريفها، بدءاً من التعريفات القديمة كتعريف ابن سنان، والذي عرفها بأنها عبارة عما يتواضع القوم عليه من الكلام، وعرفها ابن جني بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، مروراً بالتعريفات الحديثة كتعريف فرديناند، وسوسير والذي عدّها بأنها نظام من الدلائل يعبر عن أفكار الإنسان، وقد عرفها تشومسكي بأنها ملكة فطرية عند المتكلمين بلغة ما، لتكوين وفهم جمل نحوية. إن هذه التعريفات وغيرها الكثير تجعل اللغة مجرد وسيلة اتصال مجردة من الهوية.
تعريف الهوية بلا لغة
إن مفهوم الهوية يعني أن الموجود هو ذاته أو ماهيته، وقد أدخل عالم النفس الأمريكي – الألماني (أريك أريكسون) في الأدبيات النفسية مع تركيزه على فكرة شعور الإنسان، بأنه ذات متميزة عن الآخرين، وأكد على مجابهة سؤال الكينونة: (من أنا، ومن أين جئت، وماذا أريد أن أكون؟).
وقد اقترح جيمس مارشا تصنيفاً رباعياً للهوية، حيث إنها تخضع إما لإنجاز الهوية، أي الالتزام بهوية محددة بعد الانتهاء من معركة حسم الهوية، وإما تعليق الهوية بعدم الالتزام بسبب عدم الحسم، أو وراثة الهوية من غير معركة، وإما تشتت الهوية بسبب عدم وجود الالتزام والحسم. ويمكن التعبير عن هذه الحالات الأربع بحسب ترتيبها: باستقرار هويتي، عراك هويتي، استسلام هويتي، تبعثر هويتي. والهوية هاهنا لا تتصف بالثبات أو الديمومة أو السكون.
ويجب التمييز بين الهوية الشخصية والهوية الاجتماعية، فالأولى تنبع من عوامل شخصية، وترتبط بمتصل السلوك الشخصي البين، والذي يعني أن هويات الأفراد تتفاعل فيما بينها وفق شخصيات أصحابها، أما الثانية فتتشكل في إطار انتماء الإنسان لجماعة ما، وترتبط بمتصل السلوك الجماعي البين، والذي يعني أن الهويات تتفاعل وفق انتماءاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والعلمية والمهنية، والهوية الاجتماعية ضرورية لإمداد الإنسان بالأمان والجدارة والقبول والدعم الاجتماعي.
ولا يعد الطرح النظري والمفاهيمي المجرد لمفهوم الهوية مهماً، بل تأسيس علائق مع مسألة اللغة، ولذا لا بد من بعض الحلول العملية لإشكالية اللغة والهوية، والتي يمكن إجمالها بالآتي: كل هوية لها مسلماتها وأجندتها ولفتها ونفوذها وشهواتها وغنائمها، وبنزعة إمبريالية تجتاح الذات وتحبسها في نطاقها. ما سبق يعني أن ثمة صراعاً صريحاً وضمنياً بين الهويتين: الفردية والجماعية، والغلبة تختلف من وضع إلى آخر، لعوامل تعود إلى الشخص نفسه وثقافة المجتمع.
الامتزاج الوشائجي بين اللغة والهوية
وفقاً لآراء الباحثين والمفكرين العرب، تعتبر اللغة هوية، وأداة للتواصل. وثمّة مقولات ذات دلالات باذخة في هذا السياق، مثل: هوية كل مجتمع تتأسس على لغته، واللغة هي أم الرموز الثقافية المكونة لهوية الإنسان، الهوية تقع في صميم ما تعنيه اللغة، وآلية عملها، وكيفية تعلمها. هذه المقولات وشبيهاتها تفتقر إلى البرهنة على صحتها فضلا عن حشدها في مساقات تدعيم الهوية العربية والإسلامية، بما يعزز الفاعلية الحضارية، بكل مقوماتها.
فلو رُتبت طبقات هوية اللبناني المسيحي -على سبيل التطبيق- لوجدنا أنه عربي أولاً، ومسيحي ثانياً، ولبناني ثالثاً. سبب هذا الترتيب يكمن في أن الإنسان اللبناني لا يستطيع إلا أن يكون عربي، حتى وإن انغمس في مجتمعات غير عربية، فهو عربي في نفسه عربي في نفس الآخر، أما الدين فيمكنه التحول عنه رغم تكلفة فعل ذلك، وأما الجنسية فهي الأقل من ناحية الترسيخ والثبوت، فهو يستطيع تغيير جنسيته بسرعة عالية وبكلفة أقل.
ويعنى ذلك أن العربية هي ركيزة إدراك العربي لذاته، وصانعه مشاعره تجاهه. وباستعارة مصطلحات عالم النفس وليام جيمس، يمكننا القول بمعادلة الفاعل والمفعول به، أن العربية هي الذات العارفة، أي الفاعل، والعربي هو الذات المعروفة، أي الذات المفعول بها. ونعني بالعربية في السياق السابق، الثقافة بتراكماتها ومكوناتها، واللغة على رأسها، وذلك لأن اللسان يقع في قلب كل القضايا، وهو صورة تعكس الواقع الاجتماعي والنفسي للأفراد أو لمجموعة ما، خاصة في حضارتنا العربية الإسلامية التي توصف بأنها حضارة الكلمة، ومن هنا نستبين الأهمية الجذرية للغة العربية في تكوين هويتنا العربية والإسلامية.
مزج اللغة بالهوية
يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: إن لغتي هي مسكني، وهي موطني ومستقري، وهي حدود عالمي الحميم ومعالمه تضاريسه، ومن نوافذه ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع، وهو لا يكتفي بذلك بل يقول: هذه المقولة المعمقة ليست حكراً على الفلاسفة، بل هي جارية على السنة الناس العاديين، ولذا قد تجد شاباً عربياً في المهجر يعترف بأنه لا يطيق الإدعاء بأنه عربي وهو لا يعرف العربية.
ووفق ما تقدم في الأفكار السابقة، يتوجب القول بأن أي تعريف للغة لا يعترف بمحورية الهوية يعد ضرباً من اللغو المفاهيمي الذي لا قيمة كبيرة له، كما أن أي تعريف للهوية لا يراعي اللغة فهو تعريف ناقص، وهذا ما يدعو إلى اقتراح جديد لتعريف اللغة تعريفاً صلباُ، ومنبثقاُ من حيثيات موضوعية صرفة.
وتمحور التعريف الجديد حول الهوية، لا يعني الإزالة التامة لفكرة أن اللغة هي أداة اتصال، وإنما ابقائها في دائرة التعريف، ولكن بوزن أقل، مع إيلاء الأهمية للهوية. ولقد مرت عملية وضع هذا التعريف بثلاثة أطوار، وهذه التعريفات هي:
التعريف الأول: اللغة هي رموز لنقل أفكارها ومشاعرها في قالب يتناغم مع هويتها. وهذا التعريف مرفوض لاحتوائه على (رموز)، الأمر الذي يجعل اللغة أداة اتصال بالدرجة الأولى.
التعريف الثاني: اللغة هي هوية معبر عنها برموز مفهومة. وقد أفلح هذا التعريف في إعادة الأمور إلى نصابها، حيث جعل الهوية مركز التعريف وبؤرته الدلالية.
التعريف الثالث: اللغة هي هوية ناطقة. وهذا التعريف يكتنز ببلاغة كبيرة دلالات التعريف الثاني، لأنه حين نُمعن النظر فيه، نجد أنه مُحق فيما يقوله، فكلمة (ناطقة) تساوي (معبر عنها برموز مفهومة). وهذا هو الأصح، لاختزاله الدلالات المستهدفة ببلاغة ودقة، ويمكن تحليل هذا التعريف تحليلا منطقيا وفق التسلسل الآتي:
لكل إنسان هوية اجتماعية وشخصية، يرتضيها لنفسه.
أفكار الإنسان ومشاعره تعبّر عن هويته التي ارتضاها تجاه القضايا والأحداث الأشخاص.
إذن اللغة هوية.
أي فكرة أو مشاعر يعبر عنها الإنسان لا بد أن يستخدم رموزاً معينة بقالب مفهوم.
إذن اللغة هوية.
انتهاكات هويتنا الناطقة
في قمة الاتحاد الأوروبي بالتحديد في شهر أكتوبر من عام 2004، عرض في أثنائها رئيس المصرف المركزي الأوروبي -فرنسي الجنسية- تقريراً اقتصادياً باللغة الإنجليزية، وبعد أول جملة قالها، قاطعة الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) قائلاً: (لماذا بحق السماء تتكلم بالإنجليزية)، وبعدها خرج (شيراك) محتجاً على ما اعتبره إهانة (لهويته الناطقة)، أي لغته الفرنسية. وقد أثمرت هذه الغيرة اللغوية أن جعلت رئيس المصرف (خوسيه مانويل) إلى احترام هويتهم الناطقة، فالتزم بالفرنسية في كلمته في القمة على غير عادته، وكان يتنقل بين الفرنسية والإنجليزية أثناء حديثه.
وفي فبراير من العام 2008، وبالتحديد في منتدى جدة الاقتصادي، تسابق الكثير من السعوديين والعرب المشاركين على (الرطانة بالإنجليزية)، وقد نُقل عن بعض المسؤولين السعوديين أنهم أرادوا التحدث باللغة العربية إلا أن المنظمين أبدوا رغبتهم بالحديث باللغة الإنجليزية، إلا أن الرئيس البوسني الدكتور (حارث سيلايد جيتش) تحدث بِلُغَة عربية سَلِيمَة ورصينةً وسلسةً بلا لحن ولا هنات لغوية ولا سقطات نحوية، كما هي عادة الخطباء والمتكلمين من العرب. الغريب لم يحدث شيء، ولم تنقلب الدنيا ويفشل المنتدى، لم يكن من الصعب فهم ألفاظ الرئيس البوسني، فالترجمة الفورية قد كسرت كل حواجز اللغة.
إن تكرار هذا الأمر في مهد العربية يجعلنا نقابل تلك الصورة البئيسة بما يحدث في الاتحاد الأوربي مرة أخرى، ونشعر أن اللغة العربية منهكة في عدة مسارات، وهي في خطر حقيقي ومتزايد، لامتوهما ولا مبالغاً فيه. وفي هذا السياق، تجد أستاذا جامعياً متخصص في اللغة العربية، يرسل رسالة نصية كتب فيها كلمة (ماركتنج) بأحرف عربية قاصداً تخصص التسويق، وآخر كتب (بزنس) ويعني التجارة والأعمال. وفي جلسة مع أحد المتخصصين الشرعيين، قد يصعق المرء حين يسمع أحدهم يقول: (كنسل المسألة)، أي يلغي المسألة، والآخر يقول (جروبات)، ويقصد مجموعات، هؤلاء متخصصون باللغة العربية والشريعة، ويفترض أن يكونوا على درجة عالية من الغيرة اللغوية. فمن احترام العربي لهويته -على الأقل- لا يكتب أو ينطق كلمات أجنبية بأحرف عربية، بل يكتبها وينطقها عربية كما هي.
الخاتمة
إن حقيقة اللغة، ليست رموزاً للتواصل فحسب، بل ملكة عجيبة تفرد بها الإنسان عن سائر المخلوقات، ليصنع منها أداة تمكننا من صون وحماية هُويتنا الثقافية والاجتماعية، وأن نحفظ وننمي ذاكرتنا الجمعية، وأن نلبي ونُشبع أذواقنا الخاصة، أدبا وفناً.
إن الأمة التي لاتحافظ على لغتها الأُم، تستحق المسخ والإذلال بكل أصنافه، وهي بذلك لجديرة، وستصل إليه في يوم تتذوق فيه طعم التيه اللغوي والثقافي. إن من يأبى إلا مجافاة الضاد والإيغال في استخدام الكلمات الأعجمية في حديثة وتحليله، فليوقن بأنه يجرع لغته العربية ملعقة سم، ولا مناص، فإما أن نحافظ على هويتنا الناطقة أو أن نجعل خيبتنا الحضارية ناطقة.
** نقلا عن موقع وجيز
واقرأ أيضًا:
التحليل عَصْرُ النصِ ليُقطّرَ عَطاياه! / نحو تشسيع الإحساس بالعالَم مفهوم الإنصات للعالَم نموذجًا