يُـعالج الإضطراب النفسي بإحدى طريقتين: الأولى دوائية، والثانية لا دوائية. كما قد يتم الجمع بينهما بهدف الوصول إلى أفضل نتائج ممكنة. تشير كلمة "علاج نفسي" Psycho-therapy في الكتابات العلمية إلى ذلك العلاج اللادوائي، وهو عبارة عن مجموعة من الأساليب التي تهدف إلى تغيير محتوى وانماط التفكير والإنفعالات والسلوكات، ولهذا يُـسمى أحيانا "العلاج بالكلام" أو "التعافي بالكلام" [Talk Therapy [1. ويطرح هاهنا تساؤل بريء: هل العلاج النفسي إذن مجرد "كلمات" يقولها الأخصائي النفسي من باب النصيحة أو التشجيع أو الفضفضة؟.
ويمكننا الإجابة عن هذا السؤال عبر نقطتين: (الأولى) نتحدث فيها عن خطورة الكلام والأفكار في حياة البشر، بصورة عامة، و(الثانية) في توضيح أن الكلام في العلاج النفسي ليس مجرد كلاماً تشجيعياً أو دردشة وفضفضة!.
أولا: حول خطورة الكلام والأفكار في حياة البشر:
إن الهدف النهائي للعلاج النفسي هو تعديل أنماط التفكير والسلوكات وادارة الانفعالات[2]، ويمثل الكلام وسيلة التواصل الأساسية بين المعالج والعميل Verbal communication وبفهمنا لدور الأفكار والكلام في حياتنا ستتضح خطورة وأهمية هذه العملية. فتأمل معي:
ألست ترى أن الأفكار أو المشاعر قد توقظك من نومك وتفسده، كما أنها قد تدفعك للنوم طلباً للراحة من ازعاجها!.. أليس أسلوب التفكير هو ما يمكن أن يجعلك تقلق تجاه أمر ما بشدة، كما يمكن أن يطمئنك ويجعلك أقل قلقاً وأكثر اطمئناناً.. لاحظ كيف يمر شخصان بنفس الحدث أو الظرف، ولكن يختلفان جداً في ردود أفعالهم ومدى تأثرهم، والسبب إنما يكمن في اختلاف نظرتهم للأمور وتفسيرها.
يدور في بواطن أنفسنا على مدار اليوم كم هائل من الأفكار والخطرات والأحاديث الداخلية، وهي ما تـسمى حديث الذات Self-talk، وتشير التقديرات إلى أن حديث الذات لدى الفرد يتضمن آلاف الأفكار يوميا [3]، فهل تعتقد أن ذلك لا يلعب دوراً حاسماً في حياتك؟ هيهات!.. فكرة ترسم الإبتسامة على وجهك وأخرى تعكر صفاء مزاجك وتحزنك وثالثة تشجعك وتحفزك، وهكذا!.
وإذا أردت أن تعرف قيمة الأفكار، فانظر كذلك إلى المقاتل في المعركة كيف تؤثر الأفكار والتصورات (العقيدة القتالية) فيه، فتجعل منه مقاتلا مقداما أو خذولاً هياباً. وانظر في الصحافة والإعلام وأساليب رجال السياسة في التأثير في وعي الناس وسلوكهم، أليست العملية في جوهرها تأثير في الأفكارك والانفعالات من خلال التواصل اللفظي بصورة أساسية؟!.. ثم تأمل حال الشعوب وكيف يتم الفتك بها وغزوها ثقافياً، أليست الثقافة جملة من السلوكات والأفكار والتصورات التي يحملها شعب ما، عبر التواصل اللفظي بصورة أساسية؟!، وتأمل تأثير الدين في حياتنا وتأثيره في حياتنا النفسية، أليس الدين في أساسه مجموعة من المعتقدات والتصوّرات؟!
إن تأثير الأفكار أبعد حتى مما تظن، فلقد وثق الطب الكثير من حالات الشكوى المرضية الجسدية التي ليس لها تفسيرات طبية واضحة [4]، والتي يصل الحال ببعضها إلى فقد البصر والشلل [5]، وهي حالات يعتقد بصورة أساسية أنها تعود لعوامل نفسية. كما أن العديد من الأمراض الشائعة، كمشكلات الضغط والقلب والضعف الجنسي والصداع النصفي واضطرابات الجهاز الهضمي هي مشكلات صحية يلعب العامل النفسي والانفعالي دوراً حاسماً في تشكليها وتفاقهما[6]، وهو ما تؤكده استشارية جراحة الأعصاب الدكتورة سوزان سوليفان[7] في كتابها الذي نشرته تحت عنوان: "الأمر كله يكمن في ذهنك" It's All in Your Head، من خلال عملها الإكلينيكي على مدار عشرين عاماً، وتسرد سوليفان في كتابها قصصاً عديدة بهذا الصدد.
إن عالمك الداخلي بما يحويه من أفكار وخطرات وانفعالات هو حلقة الوصل بينك وبين كل شيء في هذا الوجود. وإن "الكلام" هو وسيلة النفاذ الأولى إلى أعماقك.. إن الإنسان هو "الكلمة".
ثانياً: الكلام في العلاج النفسي ليس مجرد دردشة وفضفضة:
عرفنا أن العلاج النفسي يسمى أحيانا العلاج بالكلام، وذلك لأن "التواصل اللفظي" هو وسيلة التأثير الأساسية فيه، فهو لا يتضمن تدخلاً طبياً. وعرفنا أن العلاج النفسي يهدف في نهاية المطاف إلى تغيير الأفكار والسلوكات والانفعالات. وهنا نضيف أمراً هاماً: وهو أن العلاج النفسي ليس مجرد اجراءات ارتجالية، وإنما هو عملية لها أصولها وأساليبها وقواعدها، وهو تخصص علمي يُـدرس في الأكاديميات حول العالم، وتصدر فيه مئات المؤلفات وآلاف الابحاث سنوياً. كما أن للعلاج النفسي وسائل كثيرة: كتمارين الوعي، وتمارين الإسترخاء العضلي والذهني، والسلوكات التأكيدية، وغير ذلك. هذا إضافة إلى أساليب أخرى، كالعلاج باللعب play therapy للأطفال، والعلاج بالفن Art therapy، والعلاج بالكتابة writing therapy، وغير ذلك. كما أن للعلاج النفسي برامج خاصة بالاضطرابات، فبرنامج علاجي للقلق، وآخر للوسواس، وثالث للاضطرابات النفسية الجنسية، ورابع لاضطرابات الشخصية، وهكذا وهكذا.
إن الفكرة الأساسية الذي يقوم عليه العلاج النفسي هي أن المشكلات والاضطرابات التي يمر بها الفرد إنما تعود بصورة أساسية إلى مجموعة متداخلة من عمليات التفكير حول الذات والناس وأحداث الحياة، وأن هذه الأنماط كثيراً ما تكون ذات صلة وثيقة بالتاريخ المبكر في حياة الفرد [8]. وقد أجريت آلاف الدراسات التي أكدت فعالية العلاج النفسي (اللادوائي) [9].
فماذا بعد؟
لا تنس، وأنا الناصح لك، أن هذا الحقل من أكثر الحقول التي تعرضت لتطفل الدخلاء واقتحام الجهلاء. فاختر لنفسك حاذقاً أميناً يرعى فيك ما يرعاه في نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الهوامش :
[1] يعود مصطلح "الشفاء بالكلام" (Talking cure) للطبيب النمساوي جوزيف بروير 1842-1925، بناءا على عمله الإكلينيكي في علاج الأعراض الجسدية مجهولة السبب من خلال التنفيس الانفعالي (عبر الكلام). وقد تبنى المصطلح سيغموند فرويد لاحقا، واعتمد في اتجاهه العلاجي بصورة أساسية على الحديث الحر مع المريض.
[2] American Psychological Association (2013). APA Dictionary of Clinical Psychology. Washington (DC): American Psychological Association.
[3] Davis, Bruce (2013). There Are 50,000 Thoughts Standing Between You and Your Partner Every Day!. ULR: https://bit.ly/2JfyuPL
[4] Somatic symptom disorder
[5] American Psychiatric Association (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (5th ed.). APA
[6] Psychosomatic disorders
[7] O'Sullivan, Suzann (2015). It's All in Your Head: True Stories of Imaginary Illness. UK: Chatto & Windu.
[8] Davey, Graham C. ( 2014). Psychopathology: Research, Assessment and Treatment in Clinical Psychology (2nd ed.). Wiley.
[9] Pomerantz, Andrew M. (2008). Clinical Psychology: Science, Practice, and Culture. SAGE Publications.
واقرأ أيضًا:
الزواج.. العقد الفريد! / الكلام في الطب النفسي / العلاج النفسي مجرد كلام ××