الفقر أحد أعراض الحرمان الفكري الثقافي الإدراكي، وهو النتيجة الحتمية للانصفاد بالتبعية القاهرة المانعة للحرية والحياة، فالفقر ليس مادِّيًا بحتًا، ولا يمكنه أن يكون بسبب تنامي عدد الأغنياء في الدنيا فحسب، فالحالة التي مضت عليها البشرية منذ الأزل لم تتغير، فالفقراء يتكاثرون وكذلك الأغنياء، وما تحققت معادلة متوازنة ما بين الحالتين، فعدد الأغنياء أقل بكثير جدًّا من عدد الفقراء.
ومن المعروف أن الأديان والمعتقدات والمذاهب قد فشلت في صناعة المعادلة المتوازنة ما بين الحالتين، والبحث في التاريخ يكشف أن البشرية لا تزال في ذات النمطية الاقترابية من الفقر وكأنها حالة لا بد منها ومن ضرورات الحياة، فلا حياة بلا فقراء، ولا يوجد مجتمع في الدنيا بلا فقراء.
لكن التعريف القانوني للفقر يختلف من مجتمع لآخر، فتعريف الفقير في المجتمعات المتقدمة لا ينطبق حتى على الطبقات المتوسطة في بعض المجتمعات الأخرى التي ربما يكون تعريف الفقير فيها هو الذي يحصل على أقل من دولار في اليوم الواحد!.
ويبدو أن المعضلة الأساسية التي أغفلتها البشرية هي أن الفقر تصنعه التَّبَعِية والقهر الفكري والثقافي، فالتجهيل من أهم النشاطات التي يقوم بها المُتَّصِفون بمُسمَّيات ومُمَيِّزات موروثة ومكتسبة دينية وعقائدية وقهرية أو سلطوية تساهم في الإفقار والاحتكار وتضليل الناس على أن الفقر قدرهم وعليهم أن يكدحوا لكي يحصلوا على جنان النعيم بعد القهر والسقم والإذلال الوخيم.
فثقافات البشرية تزدحم بهذه الآليات القهرية التحطيمية لإرادة الحياة عند عامة الناس، واحتكارها لبعضهم وحسب وكأنهم الأوصياء والمصطفون، وعلى الآخرين أن يكونوا لهم تبّعًا.
إن الفقر والغني حالة فكرية ونفسية، وعندما يتم غرس أفكار الفقر والحرمان في نفوس وعقول البشر ومنذ الولادة فإنه يرى أن محيطه الذي عليه أن يعيش فيه محتوم ومرسوم، وأن عليه أن يدور في فلكه، ولا يجوز له التفكير خارج هذا الصندوق المقفل.
أي أن الفقر صناعة نفسية سلوكية رائجة اعتادت عليها البشرية منذ ملايين السنين لكي يتحقق الاستعباد والإذلال والسيطرة على مصائر الناس والتحكم بهم وتحويلهم إلى أدوات لتحقيق رغبات الذين امتلكوا قدرات العبث بمصائرهم، واستثمروا بإفقارهم وتجهيلهم.
ولهذا تجد القادة الدينين والعقائديين والمُتَحَزِّبين المتمسكين بالكراسي يُمعِنُون بتنمية الجهل وإشعار الناس بأنهم لا يعلمون ولا يعرفون وما عليهم إلا أن يتبعون.
نرى ذلك واضحًا في المجتمعات المتأخرة التي تتواصل في وصفها للمجتمع بالجاهل، وما فعلت شيئًا لتحريره من جهله بثورة ثقافية أو حركة توعوية كما فعلت الصين مثلًا.
وفي المجتمعات المسلمة تجد الفقر يزداد حول أماكن العبادة وكأنها بنيت ليتوَسَّل الفقراء إلى ربهم لإخراحهم من ربقة الفقر والحرمان، وما أسهمت في التثقيف والتأهيل للخروج من صندوق الفقر ونفق الحرمان، وكأنها تأنس به وتتواصل بتنميته، ولا يوجد مكان للتعبُّد قد أسهم في محاربة الفقر، فجميعها تسعى لترسيخه وتعزيزه لتحافظ على سلطتها ودورها التَّمَلُّكي للذين عليهم أن يسمعوا ويتبعوا.
وعليه فإن الفقر وباء مُستَشرِي ومُستَوطِن لتوفر الظروف الذاتية والموضوعية لتنميته والاستثمار فيه تحت شعارات وادِّعاءات مقرونة بربٍ ما!.
ولن يتحرَّر الفقراء من أصفاد الإفقار ما دامت الدِّيانات تدعوهم لاستلطاف فقرهم وعذاباتهم الدنيوية لأنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الغنائم الكبرى بعد الممات، فالفقير يموت ليحيا مُتَنَعِّمًا بعد الموت، والغني يتنَعَّم في دنياه وآخرته، وتلك مصيبة البشرية التي أوجدتها أنانيتها واحتكاريتها الموروثة المُنغَرسة في أعماقها وعلى مرّ الأجيال.
فهل من تعبير عن بعض الإنسانية؟!
واقرأ أيضاً:
الفردي والجماعي / التهجير والتدمير / التشكي المُستَطٍير