إنتاج الفكر يَخْضَع لآلِيَّات التفكير، وليس لِلُغَتِه. فأَيَّة لُغَةٍ يمكنها أن تُنْتِجَ فكرًا إذا وُضِعَت في مناهج إنتاجية وآليات إبداعية واضحة.
والذين يَدَّعون أن اللغة العربية لا تُنْتِجُ فِكرًا إنَّما هم على خطأ كبير وضلال وَخِيم لأنَّ التجربة الحضارية للعربية تُؤَكّد مَقْدُورِيَّتَها على الإنتاج الفكري، وأنَّها تمتلك طاقات ابتكارية عالية ومُتَجَدِّدة ومُطَاوِعَة لِزَمَانِها ومَكانها، وفيها قدرات استيعابِيَّة لما تَجُودُ به العقول البشرية بأية لغة أخرى.
العيب ليس في اللغة العربية، وإنَّما في عقول أهلها التي تَقَوْلَبَت وتَخَندَقَت وتَصَنْدَقَت واسْتَنْقَعَت وانْجَسَت في البَالِيَات والأجداث، وامتنعت عن تَنَفُّس هواء الحياة المعاصرة، وانْغَمَسَت في استنشاق ما هو عَفِن ونَتِن وجَلَّاب للسُّوءِ والبغضاء. العيب في آليات التفكير التي نَنْسَجِنُ فيها ونَتَقَيَّد بتِكْرَارِيَّتِها ووَسْوَسَاتِها، وبِهُرُوبِنَا من العقل ولُجُوئِنَا إلى ما دونه من مُبَرِّرَات الاستجابات الانعكاسية الحمقاء التي تمنعه من النشاط والتفاعل اللازم لصناعة مَسِيرَة التَّقَدُّم والرقاء.
إن إِلْقَاء اللَّوْمِ على اللغة يمكن تفسيره بالتَّبْرِير والإسقاط والتَّعْجِيز المقصود الذي يَهْدُف إلى نَزْعِ الأمة من هَوِيَّتِها وقَتْلِ لِسَان وجودها المُتَمَيِّز الصَّدَّاح. كما أن القول بأن العربية لا تَصْلُح إلَّا للشعر فيه إِجْحَاف وقُصُور نَظَر لأنَّ جميع لغات الدنيا تَصْلُح للشعر، والشعر مكتوب بِلُغَات الدنيا كافة، الحَيَوِيَّة منها والمُنْقَرِضَة، والعلم مكتوب بها جميعًا أيضًا. فلماذا تستوعب اللَّاتينية كل النشاطات الأرضية، وكذلك الفرنسية والصينية واليابانية، ونتَّهِم اللغة العربية بأنَّها لا تَسْتَوْعِب شيئًا غير الشعر؟ إنَّ البعض يدعو إلى تَحْوِيلِهَا إلى لغة دينية وحسب!
ذات يومٍ رُحْتُ أبحث عن ناطق بالإنجليزية في شوارع اليابان فَعَجْزت عن العثور على ياباني يتكلم الإنجليزية، وعندما سألت صديقي الياباني عن ذلك حَدَّقَ بِوَجْهِي مُسْتَغْرِبًا وغًاضِبًا وهو يقول: "لا نحتاج لِلُغَةٍ أخرى"! فأَعْلَمَني مدى الاعتزاز بلغته، وأن عِزَّ اللغات بِعِزِّ أهلها، وقُوَّتَها من قُوَّتِهِم، ومَجْدَها من مجدهم، فإذا ضَعُف القوم ضَعُف ما يَتَّصِل بهم من ملامح ومميزات، وتَتَحَطَّم أركان قيمتهم ومعاييرهم ووجودهم.
أيها المُتَّهِمُون للغة الضَّاد بما تَشْتَهِي أنفسكم، وتَتَلَّفُظون بِفَخْر لغات غيركم. ما هي إنتاجاتكم الفكرية في اللغات الأجنبية التي تتَشَدَّقُون بها وبقدراتها؟!
إن الذي لا يستطيع أن يُنْتج فِكْرًا بلغته الأم لا يمكنه أن ينتج شيئًا بلغات أخرى. ومعظم العرب المُنْتِجِين للفكر أنتجوه بلغتهم العربية أولًا، ومن ثَمَّ بلغات أخرى، منهم جبران خليل جبران مثلًا، وغيره من المُبْدِعِين العرب المعروفين.
فمن العيب أن ينهض من العرب مَن يتحدثون ويكتبون ويُرَوِّجُون لمفاهيم ضد اللغة العربية، وما العيب إلَّا فيهم وبنفوسهم المُمَرَّغَة بالدُّونِيَّة والانكسارية والعجز والقنوط والتَّهَكُّم والمواقف السلبية من ذاتهم وموضوعهم. وأرجو منهم أن يُقَدِّمُوا لنا مثلًا واحدًا على أن العربية لا تنتج فكرًا. ومن الأفضل لهم أن يُصَحِّحُوا مفاهيمهم، ويقولوها بوضوح أن العربي لا ينتج فكرًا لأنه مُتَوَحِّل في أَطْيَان البَالِيَات، ويأبى أن يكون في زمنه، ويرى بعيون عقله ومِنْظَارِ بصيرته، وأَنَّه مُكَبَّل بعواطف وانفعالات باثولوجية تُصِيبُه بالعَمَى الحضاري والنضوب الفكري والأخلاقي والقِيَمِي الذي أَوْصَلَه إلى أَرْزَءِ المآلات والأحوال.
عاشت لغة الضاد خالدةً في ضمير الأجيال.
واقرأ أيضاً:
أعداء الأمة مُنْهَزِمُون! / اللغة والبشر / النَمَطِيَّة الخائِبَة