الأرض كائن حي، وأوطانها حَيَّة خالدة فيها، وتُمَثِّل علامتها الفارقة وهَوِيَّتها المتميزة. فالأرض لا تُضَحِّي بأوطنها كما يَتَوَهَّمُ خَلْقُها.
الأرض تصنع أوطانها جغرافيًّا وتاريخيًّا وخلقيًّا. وقد يقول قائل أنها حالات تم تقسيمها من قبل إرادات بشرية، لكن هذا التقسيم ناجم عن مؤثرات جغرافية وتاريخية وديمُغْرَافِيَّة تفرض على المُقَسِّم وجودها وشكلها الذي يميزها عن غيرها. فأشكال الأوطان غير متشابهة، ومحكومَة بعوامل متنوعة أَوْجَبَت شكلها.
وبموجب ذلك فَلِلْأوطان إرادات لا نُبْصِرُها، وتَوَاصُلات مع خَلْقِها الذين يتفاعلون مع تُرَابِها، والعلاقة متوازنة، فاحترام تراب الأوطان ومميزاتها يساهم في تنمية القدرات الكفيلة بصناعة الحياة الأفضل، والعكس صحيح.
فالأوطان لا تموت، ومَن عليها يفنى ويتبدل، فلو نظرنا في مسيرة أي وطن لَوَجَدنا العديد من الأجيال قد تفاعلت فوق ترابه، وذهبت وبَقِيَ الوطن حَيًّا فاعلًا في الحياة. ومعظم البلدان في رُبُوع الحضارات القديمة مَرَّت عليها أمواج مُتَدَفِّقَة من الأقوام الذين أَطْلَقُوا ما فيهم وغابوا، وبَقِيت تحكي لنا عنهم بما تركوه من آثار.
إن القول بِمَوْت الأوطان وهْمٌ فاعل في بعض المجتمعات التي يُرَاد لها أن تَنْدَحِر وتخيب، لكن ما فيها من مَوْرُوثات حضارية وطاقات إنسانية تُوجِب عليها التحدي والإصرار على كينونة أفضل ومُقَام أَرْفَع ودور أَنْشَط في مسيرة الدنيا المُظَفَّرة بالإنجازات. وهذا الوعي والتَّبَصُّر يُحَتِّم على المجتمعات التَّمَسُّك بالتفاؤل والعزيمة الكبيرة المؤمنة بتحقيق التَّطَلُّعات والأهداف المَرْجُوَّة لبناء المستقبل الأَزْهَر والأجمل. ولا بُدَّ من حَشْد الطاقات الوَاثِقَة بالتَّأَلُّق والتَّفَتُّح والتعبير عن جوهرها الحضاري فوق تراب الوطن المُزْدَان بعطاءات إنسانية أصيلة.
فهل لنا القدرة على طَرْدِ الهَذَيَان الفاعل في الإنسان؟
واقرأ أيضاً:
لغة والبشر النَمَطِيَّة الخائِبَة / اللغة وإنتاج الفكر / الماضي التَّلِيد والحاضر الطَّرِيد