الصرع تعريفاً اضطرابٌ مزمن أعراضه نوبات صرعية متكررة٬ والنوبة الصرعية بحد ذاتها ليست إلا أحد أعراض اضطراب عضوي في مختلف أنحاء الجسم. علاقة الصرع بالجوانب النفسانية والطب النفسي علاقة قديمة جداً ولها أبعاد اجتماعية٬ روحانية، دينية وثقافية لا يصعب العثور عليها في مختلف الثقافات القديمة والحاضرة. الغاية من هذه المراجعة هو توضيح الجوانب النفسانية للصرع من منظار طبنفساني حديث.
يتميز الصرع عن بقية الاضطرابات العصبية التي مصدرها الجهاز العصبي المركزي بكثرة الخرافات التي تحيط به عبر التاريخ٬ والتي لا يصعب ملاحظتها في الإعلام العام وأحاديث الناس٬ وخاصة في المجتمعات الشرقية والعربية. لكن إن تفحصنا التاريخ القديم نلاحظ بأن الإغريق القدامى وعلى لسان سقراط الذي وضح في كتاباته أن الجوانب الروحانية للصرع لا تستند على أي دليل علمي وسببها أن الإنسان لا يفهم الصرع 1. حاول سقراط وضع فرضية فسيولوجية للصرع٬ وميز بين الصرع كاضطراب أولي٬ وثانوي لأمراض أخرى. تحدث أيضاً عن الحمى كأحد أسباب الصرع وكذلك تطرق إلى الحديث عن علاقة الصرع بالاكتئاب. كذا أشار سقراط إلى أن الصلوات والدعاء والطقوس لشفاء الصرع ما هي إلا ظاهرة تعكس معتقدات المريض ذاته.
الآراء التقليدية
لا يزال الطب النفساني وإلى يومنها هذا يعنى بالتصنيف الهرمي 2 للاضطرابات الطبنفسية٬ في قمة الهرم هناك الاضطرابات العضوية وبعدها الذهانية٬ اضطرابات المزاج٬ ثم العصابية وأخيراً اضطرابات الشخصية. ما يعنيه الهرم بأن القائمة الأعلى تطغي على القائمة الأسفل فحين يتم العثور على أعراض ذهانية ولكن مع وجود علامات مميزة لاضطراب عضوي فإن التشخيص هو اضطراب عضوي وليس الفصام على سبيل المثال. هذا التصنيف لا يزال يثير اهتمام الطب النفساني رغم تشعب التشخيصات وخاصة في القائمة العصابية التي تشمل اضطراب الحصار المعرفي والقلق وكرب ما بعد الصدمة. مراجعة مختلف البحوث والدراسات العلمية تشير إلى ارتفاع نسبة هذه المجموعات الطبنفسانية في المراجعين المصابين بالصرع.
معدل انتشار مختلف الاضطرابات الطبنفسية في الصرع هو ما بين ٢٠ – ٦٠٪٬ وذلك بدوره يعتمد على عينات المراجعين في الدراسات واستعمال الأدوات اللازمة للتشخيص 3. أما الاضطرابات فيمكن تعدادها كما يلي: الاضطرابات العضوية وبالذات المزمنة منها وهو الخرف٬ وبعدها الاضطرابات الذهانية كثيرة الارتباط ببؤرة صرعية في الجانب الأيسر من الدماغ٬ وانتشاره ما بين ٧ – ١٢٪. هناك أيضاً الاضطرابات الوجدانية٬ اضطرابات الشخصية٬ الاضطرابات الجنسية٬ اضطرابات نفسانية مصدرها العقاقير المضادة للصرع وأخيراً الانتحار بحد ذاته. انتشار الانتحار 4 في المراجعين المصابين بالصرع هو ضعف معدله في غير المصابين به٬ وتكثر ملاحظته بعد مرور أكثر من ١٥ عاماً من التشخيص.
يتم تصنيف العلاقة بين النوبات والصرعية والاضطرابات النفسانية إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى هي مجموعة النوبة الصرعية Ictal والتي يتم تعريفها بعلامات أعراض نفسانية مصدرها النوبة الصرعية بحد ذاتها. المجموعة الثانية هي المجاورة للنوبة الصرعية Peri-ictal وتعني أعراض نفسانية قد تسبق النوبة الصرعية أو تتبعها خلال فترة قصيرة. أما المجموعة الثالثة والأخيرة فهي المجموعة ما بين النوبات الصرعية Interictal والتي تعني اضطرابات طبنفسية تحدث بين النوبات، ولكن غير مجاورة لها. أما سببيات الاضطرابات النفسانية فيتم تصنيفها عموما إلى مجموعتين وهما البيولوجية التي تعنى باضطراب الصرع نفسه٬ أسبابه٬ وعلاجه؛ والمجموعة العامة التي يمكن وصفها بتفاعل الإنسان عموماً مع إصابته بمرض مزمن.
يتم صياغة حالة المراجع الذي يعاني من الصرع استناداً إلى نماذج الطبنفسي. هناك أولاً النموذج الاجتماعي الذي يعبر عن تهميش المصاب بالصرع ومعاناته من التمييز في مختلف مجالات الحياة في التعليم وفرص العمل. النموذج النفسي الحركي يعنى بالدفاعات النفسية غير الواعية التي يلتجأ إليها المصاب بالصرع من أجل الحفاظ على توازنه النفسي مع مواجهة العقد البؤرية النفسية التي يتم تخزينها لا شعورياً بسبب التشخيص والعلاقة بينه وبين الكائنات التي تحيط به. النموذج المعرفي السلوكي يعنى بالسلوكيات والمعتقدات التي يتمسك بها المصاب بالصرع بسبب عوامل المرض نفسه والعقاقير التي يستعملها للوقاية من الصرع. وأخيراً هناك النموذج المرضي Disease الذي يركز على المرض نفسه٬ الآفة التي تسبب الصرع بالإضافة إلى الاضطرابات الطبنفسية التي تصاحب تشخيص الصرع بحد ذاته.
أما وجهات النظر المعاصرة في الحديث عن الصرع والاضطرابات الطبنفسية فهي تميل إلى التركيز 5 على العلاقة الثنائية التوجه بين الصرع ومختلف الاضطرابات الطبنفسية والاضطرابات العصبية أيضاً. بعبارة أخرى ما يعنيه هذا الرأي هو أن الصرع يؤدي إلى الإصابة باضطرابات نفسية مختلفة، ولكن في نفس الوقت الاضطرابات النفسية بحد ذاتها قد تؤدي إلى الإصابة بالصرع. ربما يعود شيوع وجهة النظر هذه إلى أن رعاية المصابين بالصرع تكاد تكون مقتصرة على طب الجملة العصبية٬ وضلوع مختلف الاختصاصات الطبية في علاج الأعراض النفسانية مع استعمال العقاقير الطبنفسية وتواجد المعالج النفساني بكثرة في مراكز الجملة العصبية. هذه العوامل ربما دفعت إلى فراق الطب العصبي من الطب النفسي تدريجياً٬ وقد لا تقتصر الظاهرة على الصرع نفسه وإنما على مختلف الاضطرابات الوظيفية التي يتم تصنيفها هذه الأيام بالاضطرابات العصبية الوظيفية حيث زحفت باتجاه طب الجملة العصبية في السنوات الأخيرة.
الملاحظات والمصادر (الضغط على الواصل)
1- أول من تحدث عن الصرع بصورة موضوعية علمية هو سقراط وبعد ذلك ازدحمت ثقافات العالم بالخرافات حول هذا الموضوع.
2- لا يزال النموذج الهرمي يشكل حجر الأساس في التشخيص الطبنفساني٬ ولم تتم إزاحته مع ولادة نموذج المحاور المتعددة أو طيف الأمراض الطبنفسانية.
3- معدل انتشار وحدوث الاضطرابات الطبنفسانية في الصرع قد يزيد على مصاحبة (تواكب) الأمراض الطبنفسانية في الأمراض المزمنة الأخرى ربما لسبب واحد فقط وهو أن الصرع مصدره الدماغ بحد ذاته.
4- الانتحار في المصابين بالصرع ضعف معدله في بقية الناس. ربما يكون السبب عدم تشخيص الاكتئاب في المصابين بالصرع وكذلك عدم التحري عن الأفكار الانتحارية في عيادات الصرع.
5- الحديث عن العلاقة الثنائية التوجه بين الصرع والاضطرابات الطبنفسانية يكاد يطغي على صياغة الأمراض النفسانية في الصرع. المفهوم بحد ذاته ليس بديلاً لصياغة الأمراض الطبنفسانية بصورة موضوعية استنادا إلى استعمال النماذج المختلفة.
ويتبع>>>> : ربط الصرع بالطب النفساني2
واقرأ أيضًا:
المشورة والإنسانية Counseling & Humanism / الطب النفسي الحركي Dynamic Psychiatry