لقد خرجنا منها، لكنَّنا تَركْنا فيها بَيْض الجَرَاد
للأسف قديمًا كنتُ من أنصار فكرة: أنّه لا مشكلة في أن يتكلّم العرب فيما بينهم بأيّ لغةٍ كانت سواء العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية أو الخَلْط بينهم، وكنت بذلك غارِقًا في سذاجةٍ أقول لنفسي فيها "طالما أن مَقصِد اللغة (وهو التواصل) قد تحقَّق، فلا بأس بأيّ لغةٍ تحقق". وأنا حقًا نادِمٌ على كل لحظة اعتقدت فيها بذلك، ولا أغفر لنفسي بحَداثَة سِنِّي أنْ توقّف عقلي عند أحد مقاصد اللغة (التواصل) وعَمِيَ عن مقاصد أخرى ربّما تَحمِل الهلاك ولا تريد ذلك التواصل بين البشر وبعضهم أو البشر وتاريخهم.
* القضية الفلسطينية:
لأضَعَكَ معي في الصورة دعنا نفترض سؤالًا ونبحث عن إجابة له. الفترة الماضية عايَشْنا كلّنا انتفاضةً فلسطينية جديدة، ودائمًا كان هناك سؤال يَخطُر في ذهني هو: «تُرَى لو أنّ مُراهِقًا أو شابًّا يدرسُ في إحدى المدارس الأجنبية، قَرّر أن يفهم القضية الفلسطينية ويتعرّف على تاريخها، وهو لا يجيد العربية، ماذا ستكون النتيجة؟ علي أيّ مصادرٍ ستَقعُ يدُه؟».
ودائمًا كنت أَصِل إلى إجابةٍ مُحزِنة مَفادُها أن بالتأكيد هذا الشاب لن يستطيع قراءة تأريخ القضية المكتوب بالعربية (لأنه لا يُجيدها على نحوٍ يُمكِّنُه من القراءة بها)، وسيتوَجَّه بدلًا عن ذلك إلى القراءة بلُغاتٍ أخرى. ومعلوم أن كُتَّاب التاريخ الأجانب (غالبيَّتهم) آراءهم ووجهات نظرهم مُغايرَة للحقيقة ولعقائدنا بخصوص القضية الفلسطينية. وأعتقد أن الشاب في النهاية سيتأرجَح بين الإيمان المَغلُوط بمظلُومِيّة اليهود، أو المساواة بين طَرَفي الصراع والنظر إليهم بعينٍ واحدة، أو توَهُّم إمكانية العيش معهم بسلام، أو أي نتيجة أخرى هي بالتأكيد انعكاس لرؤية الغرب للقضية وما يَصنعُها من مصالح سياسية خاصة.
السؤال الآخر هو: "ماذا لو كان نموذج الشاب ذاك هو النموذج الشائع والعام بين كل الشباب العربي؟ إلى أين سنَصِل؟". جاوب أنت.
* ما هي اللغة ابتداءً؟
لغة القوم ليست فقط أداة تواصل، وإنما هي جِسرُهم المَضرُوب بينهم وبين ماضيهم ليتعلّموا منه، وعدَسَتُهم المُسَلَّطة على مستقبلهم ليعملوا له.
* من أين بدأت القصة؟
بعد الحرب العالمية الثانية كان يَصعُبُ على الدول الاستعمارية الاستمرار في إدارة مُستَعْمراتها بالأساليب العسكرية والحِيَل الاقتصادية المعتادة بعد أن أنهَكَتْها الحرب واستَنزَفت قِواها، فكان البديل أن يأخذ الاستعمار شكلًا ثقافيٍّا أكثر أدواته اختراقًا هي فَصْل الشعوب عن لغاتها الأصلية وإحلال لغة المُستَعمِر مكانها ليَحُولُوا بذلك بين كل شعبٍ وتاريخه وعقيدته (فكل ذلك يختفي بانقراض اللغة او هَوانِها)، وزرع الانتماء إلى المستعمر والانبهار به في نفوس أبناء الشعب المُحتَل (وهذا الانتماء بالتأكيد سيُولَد إذا تحدثوا بلغة الآخر، وبالتالي فكَّروا على طريقته ووِفقَ هَوَاه).
لذلك حصل أنّ فرنسا زمن الاحتلال مَنَعَت التعليم بالعربية قَسرًا في دول شمال أفريقيا التي استعمرتها واستبدلته بالفرنسية، ونفس الأمر قامت به بريطانيا في مصر لعدَّة سنوات. وفي ذلك كان الجينيرال الفرنسي (شارل ديجول) يقول: "كل دولة تتكلّم الفرنسية ستشتري من فرنسا". ليس فقط ستشتري منتجات فرنسا، وإنّما ثقافة فرنسا وعقيدتها وقوانينها. وبالفعل كان ديجول مُصِيبًا فِيما قال، إذ أنّ في سنة ١٩٧٠ تم تأسيس جمعية الدول الفرنكوفونية (النّاطقة بالفرنسية)، لكن العجيب المُؤسِف أن الدول التي دَعَت لتأسيس هذه الجمعية لم تَكُن فرنسا من بينهم! بل كانت دُوَلًا يَجمَعُها أنها في يوم من الأيام كانت مُستعمَرات فرنسية، وكان من بينها تونس التي كان يرأسها حينذاك "الحبيب بورقيبة" الذي طلب من مُفتِي تونس أيام حُكمِه أن يُجِيز الإفطار في شهر رمضان لأنّه _حسب تخريفه_ يُعَطِّل الإنتاج ويضُرُّ بالاقتصاد، مُنسَلخًا بذلك من كل الأصول العَقَدِية التي يَدينُ بها أبناء وطنه.
* الشركات والأنشطة الطلابية وفخّ سوق العمل:
وفي هذا السِّياق يُؤذيني جدًا أنّ كل المؤسسات والشركات تَعتمد على اللغة الإنجليزية أو لغات أجنبية أخرى حتى في مُراسَلاتها الداخلية وبين أفرادها المُتحدّثين جميعًا بالعربية! بل وامْتَدَّ الأمر إلى الأنشطة الطلابية التي تُشَكِّل دورًا محوريًّا جدًا في تشكيل مبادئ الطلاب وأفكارهم، والحُجَّة التي دومًا ما تُردَّد تبريرًا لذلك هي أنهم يُؤهِّلون الطلاب لسوق العمل أو يُحاكُون بيئة العمل الاحترافية. والحقيقة أن هذا باطل، فهم لا يؤهلون الطلاب لأنهم لا يُعلِّمونهم الإنجليزية أصلًا ولا دور لهم في ذلك، بل هم بذلك يُرهِقون الطلاب حين يُجبِرونهم على التعامل فيما بينهم بغير لغتهم الأم. كما أنه لا علاقة من الأساس بين الاحترافية ولغة بِعَيْنها، فالاحترافية معايير وقواعد قابلة للتطبيق بكل اللغات، إلَّا أنه ربما بالفعل نحن قد حقَّقنا غاية الآخر واقتنعنا أن اللغة العربية لم تَعُد صالحة للعصر!
* ما الحل؟
بالتأكيد أنا لست ضد تعلّم اللغات الأجنبية وإجادتها (فهذا خيرٌ كبير للدين والدنيا)، ولا ضد والانفتاح على ثقافات الآخرين، بل إنّ أغلب الأدباء والمفكرين العرب والمسلمين (حتى أيام الاستعمار الغربي العسكري) كانوا يعرفون أكثر لغات الأجانب وثقافاتهم (إلى جانب تَبَحُّرِهم في العربية)، ولكن بالتأكيد أنا ضد أن يكون ذلك على حساب اللغة العربية وتهميشها. كذلك ليس المطلوب أن يتحدث الكل بالفصحى لأن ذلك يَشُقُّ على المعظم وأنا أوّلهم، ولكن واجبُنا جميعًا أن نحافظ على اللغة من التحريف أو الانقراض قدر المستطاع.
أنا فقط أَهمِسُ في أذُن كل شخص له مَنصِب أو نفوذ في موسسة أو شركة أو نشاط طلابي أن ينتَصِر للعربية ويُقِرَّها كلغة رسمية في التعاملات الداخلية، وأن يقتَصِر في استعمال اللغات الأجنبية على الحديث والمراسلات مع الأجانب. وأهمس في أذن كل أسرة أن تحرص على تعليم أبنائها العربية كَحِرصِهم على اللغات الأخرى. وفي أذن كل شخص أن يتوقّف عن الكتابة بغير العربية أو حَشْر مصطلحات أجنبية وسط كلامه العربي سواء من باب إظهار الثقافة (لأن قمّة الثقافة وعُمْق الفهم أن تكون قادرًا على نقل أفكارك والتعبير عنها بلغتك الأم) أو حتى لأنك بالفعل لا تعرف معاني المصطلحات الأجنبية باللغة العربية (فهذه مشكلة أكبر، وعيبٌ في حقّك جَهلُك بلغتك لِصالِح لغات أخرى).
واقرأ أيضًا:
أُكِلنَا يومَ أُكِلَت فلسطين