رَكِبتُ البلدان بِعُقول أبنائها. وقيمة أيّ بلد تتناسب طردِيًّا معها. وكُلَّما تفاعلت العقول تقدَّمت البلدان وتحقَّق مُرَادُها المأمول. هذه معادلة حضارية ذات نتائج معلومة ومُؤكَّدة، لكنها لا تنطبق على كافة الشعوب والبلدان، فهناك بلدان مُتَّخِمَة بالثَّراء العقلي والمادي وهي أتعس البلدان، وأهلها تهجرها وتكره العيش فيها مهما عانت في غيرها من الأوطان. وهي حالة مُحَيِّرَة تستوجب تفعيل الأذهان!
الوعاء قد يَلْفِظُ ما فيه أو يَتَقَيَّأه لعدم مُوَاءَمَتِه له، فالماء مثلا يمكنه أن يكون في أي وعاء، لكن السوائل الأخرى ربما تحتاج لِأَوْعِيَة خاصة لأنَّها إن لم توضع في الوعاء المُتَوَافِق معها فستأكل ذلك الوعاء، فالخَلُّ مثلًا أو الكحول والحوامض الكيمياوية، وغيرها الكثير التي تحتاج إلى أوعية تناسبها.
والعقول ليست كالماء، وإنَّما مُتَنَوِّعَة وذات تفاعلات مُتَعَدِّدة، وبحاجة لأوعية تناسبها لتبقى حيَّة وقادرة على التفاعل والعمل. ويبدو أن العقول التي لا تنفع تكون في أوعية لا تتوافق معها ولا تستَوْعِب مُنطَلَقاتها وتوجُّهاتها الكامنة فيها، فتتَحَصَّل مُنَازَلة بين الوعاء وما فيه تنتهي بتَقَيُّؤ الوعاء لها لِيَسْلَم من الأضرار الناجمة عن بقاء ما لا يُواِفُقه فيه.
ومجتمعاتنا أوعية طارِدَة للعقول، ولديها آليَّات إِجْهاضِيَّة لأي عقل يساهم بإيقاد نور في مسارات الأيام، وإيقاظ الناس من غفلتها وحَثِّها على السَّيْرِ في سِكَّةِ كَيْنونَتها اللَّائِقَة بها. ولهذا يتعَجَّب الآخر من وَفْرَة العقول وندرة المعقول، وسيادة التنافر والقُصُور، وعدم القدرة على الإتيان بما يساهم في صناعة الجديد والمفيد.
فعقولنا فاعلة في بيئات أخرى، لأنَّ المكان الذي وُجِدَت فيه يَكنِزُ عدوانية ضدَّها قد تكون مدروسة أو مُتَوَهَّمَة وناجِمَة عن حَيْثِيَّات انفعالية فاعلة في كراسي السلطة والنفوذ في المكان. ولهذا فإنَّ الذين يُنكِرُون على الأمة تفاعلاتها الحضارية يعيشون في تصورات كاذبة، فالأمة مُشارِكَة في صناعة الحاضر الإنساني في بقاع الدنيا، وقادرة على النهوض والرَّقَاء والتقُّدم الأصيل، فعقول أُمَّتِي مَنارات أَرْشَدَت التائهين في عصور الظلمات إلى فجر الوجود الإنساني الساطع!
واقرأ أيضاً:
النانوية!! / العرب لا مُتَأَخِّرين ولا مُتَخَلِّفين / قطاراتنا وقطاراتهم!