البشر يَمِيلُ لِتَحْرِيف المعارف وتَطوِيعِها لتَخْدِم أهواءه وتَطَلُّعاتَه مهما كانت غير مُتوَافِقَة مع إرادة الحياة. وبسبب هذا المَيْل الغَرِيزي تعَدَّدت الروايات حول موضوع واحد، وتناقَضَت وِفقًا للفترة التي تُروَى بها، فكلٌّ يُغَنِّي على لَيْلَاه، والحقيقة مَطْمُورَة في الغَثِيث المُتناثِر في دروب الأجيال.
ولهذا فالاعتماد على ما ورد في كتب التاريخ (مهما اقتنعنا بمصداقِيَّتِه) فلن نقتَرِب من الحقيقة، وإنَّما سنستنتج ما يُوحِي برأي أكثر مَعقُولِيَّة من غيره وحسب، أي أن ما نتوَصَّل إليه من خلاصات ونتائج لا يُمثِّل حقيقة الحالة التي بحثنا فيها.
ويمضي البشر في مسيرة التحريف حتى تنتهي إلى ما هو مُحرَّف تمامًا ولا يتَّصِل بالحقيقة والواقعة، لكنه يدور حولها، ولا يعرف آلِيَّات الاقتراب الأمين منها. والعجيب في الأمر أنَّ الأحداث المُعاصِرَة تعرَّضَت لتحريف مُرَوِّع، فَبِمَا كتبه الكتاب والباحثون تمَّ تقديمها وفقًا لرؤية كُلّ قَلَم تناولها، أمَّا حقيقتها فانْدَثَرت بين رُكام الكتابات المُتناقِضَة المُتقاطِعَة مع بعضها. فكيف بأحداث جَرَت قبل قرون بعيدة؟!
إن نَوازَعَ التَّحريف العاصِفَة في دنيا البشر تَدْفَعُ به إلى النُّكران والتَّصَوُّر والتعبير عمّا يتوافق ورؤاه، وما فيه من المشاعر الانفعالات. ولا يُمَكِّنُه أن يكون مُجرَّدًا ونَزيهًا في تناوله لأي موضوع. فَمَا أنْ يتفاعل البشر مع حالة ما، فإنَّه يَرسُمُها كما يراها لا كما هي عليه، فَلِكُلِّ شخص عَدَسَتُه التي يرى بها الأشياء، وبهذا فهو يرى ما تبدو عليه خلال عَدَسَتِه، مِمَّا يعني أن الصورة مُشَوَّهة وبعيدة عن حقيقة المَوصُوف.
فهل أنَّ النسبة الكبيرة من التأريخ مُحرَّفة ومُعبِّرَة عن رؤى وتصورات أصحابها الذين تناولوها وفِقًا لما أَمْلَتْه عليهم حالتهم النفسية وانفعالاتهم ومواقفهم وتوجهاتهم وما فيهم من الأشياء الأخرى الفاعلة والمؤثرة فيما يكتبون؟
علينا أن نكون حَذِرينَ عندما نقرأ التأريخ، ولا بُدَّ من عَدَسات الشَّكِّ في النَّظر إليه!
واقرأ أيضاً:
قطاراتنا وقطاراتهم!عقول عظيمة وبلاد سقيمة! / سلة الغذاء وبنوك الطعام / مَنْ اكتشَفَنا؟