هناك العديد من المراجعين لمراكز الطب النفسي يحملون تشخيصات طبنفسية مرتبكة وغامضة وإذا استثنيت العنوان فإن تفاصيل الحالة تتميز بميزة واحدة فقط وهي عدم وجود الأدلة على التشخيص في الملف.
كذلك الحال مع العديد من البشر الذين لا تسهل صياغة حالتهم وتأزمهم المستمر مع المجتمع الذي يعيشون فيه. هناك من لا يقتنع بهويته الشخصية، وهناك المتطرف الذي يقدس البعض ولا يعير أهمية لوجود الآخرين. واخيراً هناك الإنسان الذي يودع الحياة مبكراً وتنسى الناس ذكراه في وقت مبكر.
ممارسة الطب النفسي تعني التعامل مع حالات مختلفة لا تقتصر فقط على العيادة الطبية النفسية. الطبيب النفساني يزور السجون ويشهد في المحاكم، وتستشيره الخدمات الاجتماعية لإعطاء الرأي في الأمور العائلية. ليس كل من يستشير مراكز الطب النفسي يعاني من اضطراب عقلي، ولكن ليس كل من يعاني من اضطراب عقلي يزور الطب النفسي.
كذلك علينا أن ندرك أن صياغة سلوك الإنسان من خلال إطار نفسي وتعليله علميا لا يعفيه من المسؤولية. المجتمع وقوانينه هي التي تقرر مصيره، وبعد سن البلوغ يتحمل الإنسان مسؤولية سلوكياته.
مرحلة العوامل المؤهبة
في بداية الأمر لابد من التركيز على نقطة في غاية الأهمية، وهي أن هناك عوامل بنيوية في الإنسان تلعب دورها في حياته منذ بداية الحياة. يرث الإنسان جينات والديه، ويتعرض في مرحلة الجنين لعوامل صحية مختلفة، وهناك من يعاني من صدمات أثناء مرحلة الولادة. يدخل الإنسان في بيئة عائلية وهناك نظام عائلي مساند يساعده في تطوير نفسه بل وحتى تجاوز عوامل النقص البنيوية فيه، وهناك نظام عائلي تأثيره عكس ذلك كلياً. هناك ظروف بيئية اقتصادية وتعليمية واجتماعية تلعب دورها الإيجابي أو السلبي في الإنسان.
مرحلة الإعصار العوامل المرسبة
المرحلة التي تنقل الإنسان من الطفولة إلى البلوغ والرشد هي المراهقة. هناك تغيرات بيولوجية هائلة وكيمياء جديدة تتحكم بجسم الإنسان وتؤثر على إدراكه لنفسه، المجتمع الذي يعيش فيه، والبيئة التي يتعامل معها. يصارع المراهق هذه المرحلة ويتغلب عليها في معظم الحالات ولكن مع وجود عوامل مؤهبة أعلاه وغياب السند الاجتماعي ينحرف مسار تطوره الطبيعي وينتهي باكتساب صفات شخصية غير طبيعية لا تلبي احتياجاته ولا تساعده على النضوج.
مرحلة العوامل المرسبة تتزامن أيضاً مع مرحلة التعليم الحرجة. هناك من البشر من يستثمر طاقاته الشخصية في التعليم بسبب تركيبته البنيوية وهم أقلية، والكثير ينحرف في هذه المرحلة ولا يستلم السند التعليمي والتربوي.
وهناك أيضاً التنمر. البعض منهم يكون ضحية تنمر زملائه وذلك يدفعه بسرعة نحو طريق منحرف، وهناك من يحاول التخلص من أزماته وعوامله المؤهبة يتزعم مجموعة تنمر على الآخرين ويكتسب هوية الشقي أو البلطجي التي تدفعه باتجاه طريق واحد وهو هامش المجتمع.
مرحلة عوامل الإدامة
يكتسب الإنسان صفات شخصية ويتم استعمال مصطلح صفات شخصية حدية للتعبير عنها. هذه الصفات الشخصية الحدية تقع على نفس محور الشخصية المعادية للمجتمع، ولكن اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع أكثر ملاحظة واستعمالاً في الذكور في حين استعمال مصطلح الشخصية وتشخيصه أكثر شيوعا في الإناث.
هناك تسعة صفات تميز الشخصية الحدية لا تتواجد جميعها في كل مراجع يتم تشخيصه. سلوك التشويه الذاتي والمحاولات الانتحارية كثير الملاحظة وربما هو الصفة الأولى التي تدفع الطبيب النفساني إلى التنقيب عن الصفات الأخرى والوصول إلى تشخيص الشخصية الحدية.
عتبة تهور المراجع أقل بكثير من غيره وذلك طالما يدفعه نحو استعمال مواد كيمائية محظورة. البعض منهم يعرض نفسه لإصابات الدماغ بسبب الشجار وحوادث السير وقد تنتهي رحلته بتلف دائمي لأنسجة الدماغ.
عدم الاستقرار الوجداني يدفع المريض نحو موقع اكتئابي مزمن أو اكتئاب مزدوج. البعض منهم يصل عدم الاستقرار الوجداني به إلى درجة المعاناة من اكتئاب مزمن يصاحبه نوبات هوس طفيفة وقصيرة. كان البعض يستعمل مصطلح دفاع هوسي Manic Defence لوصف هذه الظاهرة أما هذه الأيام فيتم حصرها في إطار الثناقطبي الثاني Bipolar II Disorder.
يتميز البعض بنوبات غضب شديدة تدفعه نحو التأزم الاجتماعي والقانوني وينتهي أمام المحاكم وفي السجون. هذا الإنسان يتم تشخيصه دوماً بالشخصية المعادية للمجتمع ويوصمه البعض بالسايكوباث Psychopath.
الشكوى من الضجر والعزلة تدفع الإنسان نحو استعمال عقاقير مضادة للاكتئاب بدون جدوى. الأشد من ذلك أحياناً خوفه من العزلة والبحث عن انتماء يعرضه للاستغلال من قبل المجموعات المتطرفة المختلفة. ارتباك الهوية الشخصية هو الآخر عامل في غاية الأهمية في دفع الإنسان نحو التطرّف وأحياناً ارتباك الهوية الجنسية. ربما ذلك يفسر لنا أحياناً شكوى الإنسان بأنه في داخل جسد غير جسده ويطلب تغيير هويته الجنسية عن طريق هرمونات وتدخل جراحي من عمر مبكر. ذلك بالطبع لا ينطبق على الجميع وإنما يفسر لنا ضرورة الالتزام باللوائح الرسمية حول التقييم النفساني لكل مصاب باضطراب الهوية الجندرية. حملات تشييع تغيير الهوية الجندرية الليبرالية الأخيرة بدون فحوص طبية أجبرت بعض الحكومات الغربية على تغيير توصياتها والتزام الحذر.
هفوات اختبار الواقع واستعمال عقاقير محظورة تؤدي إلى الإصابات بنوبات ذهانية قصيرة. مع تكرر هذه النوبات يتم وصف عقاقير مضادة للذهان لأجل غير مسمى بحجة موازنة المزاج، ولكن مع مرور الوقت يعاني الفرد من أعراض موجبة غير نموذجية وأعراض سالبة لا تختلف عن أعراض الفصام السالبة وتنتهي مسيرته بالحصول على تشخيص الفصام المزمن. هذا ما يفسر لنا استعمال عقار كلوزابين Clozapine في اضطراب الشخصية الحدية.
الممارسة المهنية
هناك الكثير من الأمثلة في الممارسة المهنية والمطالعة الإعلامية. في الممارسة المهنية هناك الإنسان الذي يشكو من اكتئاب مزمن وأفكار انتحارية حاول تنفيذها أكثر من مرة. هناك المراهقون الذين يرتكبون جرائم قتل جماعية أو يتم تجنيدهم للقيام بأعمال إجرامية. وهناك من تكون رحلته عبر تشخيصات طبنفسية متعددة من اضطراب شخصية وإدمان إلى فصام وثناقطبي. لكل حالة روايتها وصياغتها الخاصة بها.
المعالجة
القاعدة العامة للعلاج هي التركيز على الحلقة المفرغة بداية بسلوكيات اضطراب الشخصية الحدية.
هناك من تكون سيرته اكتئاب مزدوج ومزمن مع أفكار انتحارية وسلوك انتحاري متكرر يتطلب حماية المريض. يجب أن لا يتردد الطبيب في علاج هذا الاكتئاب كأي اضطراب وجداني مقاوم للعلاج. وجود تاريخ لنوبات هوسية قصيرة يتطلب استعمال موازن مزاج. تاريخ نوبات هوس مع سلوك انتحاري يستجيب أحيانا بصورة درامية لعقار الليثيوم.
في مرحلة ما لابد من التركيز على المخطط المعرفي الاكتئابي الذي يحمله الإنسان. لا يوجد علاج نفساني أفضل من الآخر استنادا إلى الدراسات الميدانية والأهم هو خبرة الفريق المعالج في علاج الحالات وتفاعلهم مع المريض.
لكل إنسان احتياجاته الخاصة بها الذي فشل هو بتلبيتها وفشلت عائلته والمجتمع بأسره في تقييمها. بدون سد هذه الاحتياجات يبقى الإنسان معرضا لانتكاسة بعد أخرى وربما يقرر يوما ما نهاية وجوده. قرار النهاية أحياناً هو بيد القانون والمجتمع وهذا ما يجب أن يقبل به الطب النفسي.
واقرأ أيضًا:
الدماغ بين العاطفة والحكم الأخلاقي / الاضطراب الحصاري القهري (الوسواس القهري) في التصنيف11