أحب أن أقول شيئا بخصوص العلاقات الزوجية.
هنا وهناك نشهد معارِك ضاريّة حول مفاهيم القوامة والعشرة وحقوق وواجبات كلّ من الزوج والزوجة، تعليقات وسخرّية وولولة... بَسُوس افتراضيّة. ما يُثير اهتمامي هو تفكيك عمليات الاستدلال وما تُخفيه من نزعات انتمائية (للجنسين) وقراءةٍ مُتحيّزة للتجارب الواقعية أو للنصوص الدينيّة.
يُمكننا التركيز هنا على ازدواجية المعايير والانتهازية التي تختبئ وراءَها. رجال يريدون أن يُبقوا على النمط التقليدي فيما بخص مصالحهم وامتيازاتهم، فالمرأة متبعّلة لزوجها منظفة لبيتها مربية لأولادهما، حتى إن عملت وخرجت وتعبت وتشاركه المصاريف وقد لا يعطيها شيئا ما دامت تملك مالا... في حين هو لا يغسل ولا يربي ولا ينظف... فهو رجل، في هذا المستوى.
من جهة أخرى نساء ذوات لسانين، لسان نسويّ لاذع يتكلم وقت ما تكون النسوية منتصرة لمظالمهنّ، محرّرة لأغلالهنّ، أنا حرّة، أنا امرأة وأنت شريكي ولست سيّدا عليّ، أنا أخرج وأدخل وقت ما أشاء كما تفعل أنت دون توقيع محضرٍ... إلخ
أمّا اللسان الآخر فهو لسان المؤمنة التي تبحث في فتاوى الفقهاء المجتزأة (والنظريّة المحضة) على أنّ الزوجة ليس واجبا عليها أن تخدم زوجها لكنه يجب أن يصرف عليها حتى إن كانت أكثر مالا منه، في الوقت نفسه ترفض فكرة أن يكون له الحقّ في منعها من العمل مثلا وهي فكرة غير منتمية للفكر التقليدي الذي تستدعيه في قضية النفقة. وبين شدّ وجذب كل يُغنّي على ليلاه بإيراد نصوص دينية يعتبرون أنفسهم باستحضارها قد طبّقوا والتزموا بالأخلاق التي أرادها لهم الدين.
يعني هذه المشاحنات الكلّ يشعُر فعلا أنّه "أخلاقيّ بامتياز" ويتّهم الآخر بالانتهازية، لأنّ تناسق تلك النصوص مع تصوراته عن حقوقه وواجباته تجعله أخلاقيا في نظره عكس شريكه الآخر. لكن المشكل أنّ قضية الأخلاقيات ليست متعلّقة بهذا الشكل بالنصّ الديني، فالقانون ليس هو روح القانون، وقد نأتي بالنصّ الديني كحجّة أخلاقية، ونحن نُمارس الدناءة بعَينِها.
وشيء آخر لا نفهمه في صراعاتنا هاته، آراء الفقهاء وتنظيراتُها تكون في سياقات "مُجرّدة" كنوع من الاستنباطات المُنحدرة من الأحكام الدّينية، يُمكن تطبيقها على الواقع لكن باعتبارات واقعية وليس "منطقيّة" فقط، أي أنّ تغيّر السياق وبالتالي الحقوق والواجبات سيُحدّد ما هو أخلاقي وغير أخلاقي.... رُبّما أتحدّث في هذه النقطة في منشور آخر... فقط أطلتُ
وأورِد حديثا دقيقا في هذا السياق "البِرُّ ما اطمأنّت إليه النفس، وإن أفتاك الناس وأفتَوك" فقد تُخالفُ الفتوى التي يُشهرها قاهرةً ملزِمة، رجلٌ أو امرأة، البِرَّ المزعوم... إيه ! بهذه البساطة والبداهة.
فلماذا فكرة أن النصوص تكفي لتحديد ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي خاطئة في نظري؟
- أوّلا لأنّها تعتمد على مبدأ أن الحرام غير أخلاقي، والمباح أخلاقي، إن كان هذا المبدأ يتوافق في بعض الحالات، فهو غير سليم في حالات أخرى. إضافة إلى أنّ التحريم حُكم عامّ أمّا الفعل الأخلاقي يحتكم للسياقات والحيثيات.
مثال عن عدم أخلاقية ما هو غير واجب:
* مررتُ على شخص في الشارع، يواجه صعوبات أو ملقيّ على الأرض، حرفيّا ليس من واجبي أن أعينه، فليس هناك نص يفرض عليّ هذا فأنا لست قريبا له ولست من رجال الإسعاف... هل يعني أنني سألتقي به مبتسما غدا وكلي شعور بأنني لم أكن "لا أخلاقيا معه"؟! الجواب واضح خصوصا إن كنتم مكان الشخص في الشارع.
* مثال في العلاقة الزوجية نفسها، زوجة تعمل ولها مال، وتقول لزوجها ليس واجبا عليّ أن أصرف معك، هل قرارها هذا يُعتبر أخلاقيا فقط لأنّ الدّين لم يقل لها "واجب عليك النفقة" ؟! هذا ما تعتقده هي.
* مثال عن عمومية الحُكم الديني وخصوصية الفعل الأخلاقيّ: حكم وجوب النفقة على الزوج لا يقتضي أن يشتري كماليات لزوجته، فإن كان غنيّا وبخل عليها بدعوى أنّه قد أدّى واجبَه، فلن يكون أخلاقيا في نظرها، سيكون بخيلا والبخل ليس أخلاقيا.
- ثانيا لأنّها تتضمّن فكرة أنّ الفعل الأخلاقي مجهول حتى تأتي أحكام الدين فتُحدّده. وطبعا هذه فكرة خاطئة، فالأخلاق كتصوّر في جزيرة العرب قبل مجيء الإسلام كان مُكتملا إلى حدّ كبير، الدّين أتى ليضع حدودا لبعض النزعات الأخلاقية المُفاخرة أو لتعديل بعضها، والأهمّ تحديد ما هو أخلاقيّ وسط التركيبية الاجتماعية آنذاك، ممّا يعني أن تغيّر التركيبة الاجتماعية قد يُغيّر أخلاقيّة الفعل!
بكلمات أخرى لمّا نسمع: "إنّما أتيتُ لأتمّم مكارم الأخلاق" نفهم تلقائيا بأنّ الناس كانت تعرف من هو الشخص الأخلاقي وغير الأخلاقي.
مواساةُ السيّدة خديجة للرسول عليه السلام أوّل ما نزَل الوحي دليل على أنّهم كانوا يفهمون معنى "الأخلاق" ويرفعون الرجل أو يضعونه حسب تلك المعايير الأخلاقية، تأمّلوا قولَها "فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ" كل هذه صفات مفصّلة حسب معايير أخلاقية متبايِنَة، فليس الصدق وحده، وليس الكرم، وليس الإنصاف... بل كلّ ذلك مجتمعا ممّا يدل على تصور قبلي عن الدين نفسه.
وحديث "البرّ ما اطمأنت إليه النفس..." الذي أوردتُه في منشوري السابق، يوضّح فكرة مهمّة للغاية هنا، وهو أنّ الفعل الأخلاقي لا ينبع من الدين نحو التصور البشري فقط، بل هو ينبع من تصَوّر الفرد لما هو أخلاقي "ثُــــــمّ" بعد أن يصحّ ويستقيم ذاك التصوّر، تأتي عمليّة الإسقاط على النصوص الدينية لِمَا هو جدير بأن يكون حُجّة أو نصّا مؤيّدا لتلك الأخلاق الحميدة أو رافضا لِما دونَها.
هذه الجزئيّة تفسّر لماذا بعض الناس لا يكُفّون عن استظهار الكثير من النصوص والعبر الأخلاقيّة لكنّهم غير أخلاقيين، أو عكسُهم ممّن لا يعرف نصوصا لكنّهم يسلكون مسلكا أخلاقيا في تعاملاتهم وعشرتهم.
لأنّ ذاك الذي يبحث هنا وهناك عن قوانين أو نصوص ليُقرّر ما هو أخلاقي في حين يُمكنه أن يرى بنفسه لاأخلاقية فعله (رجلا أو امرأة)، هو في الحقيقة لم يبنِ تصوّرا أخلاقيا سليما ويُمارس مراوغة نفسية استنادا إلى الدين (أو غيره).
أزمة الأخلاق تفسّرها هذه المسافة الفارقة بين التصوّر الفردي القبلي للأخلاق وبين تلك النصوص المستشهَد بها. فرغم الضجة القائمة حول التدين كمُعطى أخلاقي إلاّ أننا متدهورون أخلاقيا، والسبب، كما قلتُ آنفا، هو أنّ الدين عند من لديه تصور مغلوط وأناني عن الأخلاق سيكون عبارة عن انتهازية وانتقائية لما يخدُم توجّهاتنا ومصالحنا الخفية والمعلنة.
واقرأ أيضاً:
حجة الأسباب النفسية للإلحاد ! / هل هناك فرق بين العشق والحب