"هي الأجيال في حُفًرٍ ترامتْ...وزادَتْ حَفرَها حَتّى تداعَتْ"
الاقتراب من الموضوعات التأريخية أشبه بمَن يرمي جبلا بحجر، فالمدوَّن راسخ متجذر في العمق الجمعي للأجيال، ولا يمكن زحزحة ما تمترس فيها لو استحضرت ما لا يُحصى من الأدلة والبراهين.
فالذي يتفاعل مع التأريخ عليه أن يكون ناقلا ومبررا لأحداثه، ولا يجوز له نقدها وقراءتها بعلمية ومنهجية، لأنها مدونة بمداد العاطفة والانفعال، ومعبرة عن مواقف وحالات تتوافق ونظام الحكم المهيمن على الواقع في حينها، فلا توجد مدونات تأريخية تقدم الحقيقة، وإنما مكتوبة بمداد الحكام والسلاطين، وكلٌ يكتب تأريخه على هواه.
والعديد من كتبة التأريخ، كانوا يعتاشون على كتاباتهم، مثل الشعراء وغيرهم الذين يمجّدون الكرسي ويمتدحونه، ويتسترون على مآثمه وخطاياه، ويوهمونه بأنه يمثل إرادة رب العالمين.
فلا توجد مدونات نزيهة وصادقة، وهذا يتسبب بمتاعب وبذل جهد لتمحيص الغث من السمين، ولتقدير درجة المصداقية فيه.
وحتى عندما تقترب منها بعلمية وموضوعية، فإن في الأجيال مواقف واتجاهات وتصورات، ومتاريس عاطفية لا يمكن اختراقها، بل تتقدم بجحافل مصداتها وهجماتها القاضية بتدمير ما توصلتَ إليه، وتعزز المنقول وتتخندق فيه، لأنه قد منحها فرصة للاستثمار وتكوين المسار، الذي تستعمله لكسب ما تريد وترغب. فالمتعامل مع التأريخ، يجد نفسه أمام موانع وعثرات وتحديات، وربما عدوانية ذات منطلقات تدميرية، وتوجهات افتراسية ترغب بالمحق والإنهاء.
ولهذا فالكتابة في الموضوعات التأريخية تكون محفوفة بالمخاطر، ويُنظر إليها بنصف عين، فالواقع البشري المتطامن في مستنقعات السكون، يميل للمنقول ويأبى إعمال العقول، لأن ذلك سيؤدي إلى اليقظة والتغيير، مما يتطلب جهدا وقدرة على التحدي والنزال.
ومن هنا فإن الأمة بحاجة لطوابير باحثين ومهتمين، أشداء ذوي إصرار ومواصلة وعبر أجيال، لكي يكون للحجارة التي تضرب الجبل بعض الأثر والصوت، وتشد الانتباه، وتساهم في إعادة النظر ورؤية الجبل على حقيقته، لا كما يُراد لها أن نراه.
فهل من قدرة على الصبر والمثابرة والعناء؟!!
واقرأ أيضاً:
وإذا كانت النفوس صغارا!! / القوة العلمية!!