ما هو المرض النفسي.. وما هي أسبابه؟ هل هو مرض أصيل أم من الممكن أن يكون مجرد عرض؟
المرض النفسي هو اضطراب في الوظائف النفسية (الانتباه، التركيز، الإدراك، التفكير، الذاكرة، المشاعر، النوم، الكلام، السلوك، البصيرة، الاهتداء، الحكم على الأمور)، وهو ينتج عن عوامل بيولوجية (اضطرابات في مراكز المخ، أو خلل في كيمياء المخ)، وعوامل نفسية (ضغوط الحياة)، وعوامل اجتماعية (الصراعات والمشاكل بين الأشخاص)، وعوامل روحية (فقد المعنى والغاية، فقد أو ضعف العلاقة بالله، فقد الإحساس بالوجود، فقد الإحساس بالجمال والصفاء الروحي). والمرض النفسي مرض أصيل مثله مثل المرض الجسماني له أسبابه وأعراضه التي تميزه عن الأمراض الأخرى وله مضاعفاته ومآلاته وعلاجاته النوعية.
ـ ما هي علاماته؟ متى أحكم على شخص ما بأنه مريض نفسيا يتوجب علاجه؟
ربما يشترك الأسوياء مع المرضى النفسيين في بعض الأعراض، فمثلا قد يشعر الأسوياء ببعض القلق وبعض الحزن وبعض الغضب وبعض الشك وبعض الغيرة وبعض الخوف، ولكنها في الأسوياء تكون أعراض متفرقة وغير مؤثرة كثيرا في مسار حياة الإنسان وقدرته على أداء وظائفه، أما في المريض النفسي فهناك دليل لتشخيص الأمراض يعرف بالدليل الدولي لتشخيص الأمراض النفسية ICD وهناك الدليل الأمريكي DSM وكلاهما يضع معايير محددة لتشخيص كل اضطراب نفسي بحيث يجب أن يستوفي المريض عدد من الخصائص والأعراض المرضية لكي يتم تشخيصه بأنه مضطرب نفسيا، ولابد أن يكون قد مضى على هذه الأعراض مدة محددة في كل مرض، وأن تكون شدتها بالقدر الذي يسبب للمريض كربا مؤثرا يؤدي إلى صعوبة قيامه بوظائفه الحياتية المطلوبة منه أو ممارسة هواياته وعلاقاته بشكل طبيعي.
ـ هل هناك علاقة بين المرض النفسي والعقيدة.. بمعنى: هل يصيب المرض النفسي ضعاف الإيمان فقط؟
عبارة وردت على لسان الدكتور مصطفى محمود يرحمه الله مفادها أن الإنسان المؤمن لا يصاب بالاكتئاب لأن إيمانه بالله يحميه من الاكتئاب، وقد تواترت هذه العبارة كثيرا على ألسنة الكثيرين من علماء الدين والدعاة وانتشرت بين عوام الناس ومثقفيهم، فما مدى صحة هذه العبارة من الناحية العلمية؟
أولا : الاكتئاب مرض نفسي له خصائص تشخيصية محددة إذا توافرت وكانت بالشدة التي تعوق الإنسان عن أداء وظائفه وممارسة هواياته ومواصلة علاقاته الاجتماعية، وأن تستمر الأعراض لفترة لا تقل عن أسبوعين، وهذا يفرقه من حالات الحزن أو اعتلال المزاج العابرة والتي تحدث لكل الناس بسبب ظروف الحياة. والاكتئاب يحدث نتيجة خلل كيميائي في المخ واضطراب في توازن الهرمونات المختلفة واضطراب في وظائف بعض مراكز المخ، أي أنه في الأساس اضطراب عضوي في المخ. وهو قد يحدث دون أسباب مباشرة ويكون مرتبطا ببعض العوامل الوراثية، وقد يحدث بسبب فقد عزيز أو فقد مال أو مكانة أو وجود ضغوط حياتية مزمنة. وبما أنه مرض ينطبق عليه خصائص الأمراض فهو يصيب أي شخص بصرف النظر عن إيمانه أو ضعف أو حتى عدم إيمانه، وهو يشبه في ذلك مرض السكري، فمثلا في الاكتئاب يكون هناك نقص في السيروتونين أو الأدرينالين أو الدوبامين أو الثلاثة مجتمعين، وفي مرض السكري يكون هناك نقص في الإنسولين، وفي كلا المرضين يكون العلاج بإعطاء المواد الناقصة أو تحفيز إفرازها أو محاولة الإبقاء عليها في المشتبكات العصبية. ولم يقل أحد بأن المؤمن لا يصاب بالسكري، وإلا لكان كل مرضى السكري متهمون بضعف الإيمان ... واتهام مريض الاكتئاب بضعف الإيمان أو ضعف الإرادة أو ضعف الشخصية يزيد من حدة مرضه ويضاعف من إحساسه بالذنب ويؤخر شفاءه كثيرا وربما يدفعه للانتحار لأن مريض الاكتئاب يكون شديد الحساسية ولديه ميل كبير للإحساس بالدونية والإحساس بالتقصير والإحساس بالذنب، فإذا جاء من يقول بأن المؤمن لا يصاب بالاكتئاب فإنه يتهم كل من أصيب بالاكتئاب بضعف الإيمان، وهذا ما يحدث فعلا من المحيطين بالمكتئب من أقاربه وأصدقائه، إذ ينهالون عليه بالنصائح بأن يقوي إيمانه الضعيف، وأن يحمد الله على ما أعطاه من النعم ولا يكفر بهذه النعم، وكأنه حين أصيب بالاكتئاب كان ذلك بسبب بعده عن الدين وكفره بنعم الله، وهذا غير صحيح كما أسلفنا فالاكتئاب وباقي الاضطرابات النفسية مثلها مثل الأمراض الجسمانية تصيب المؤمن وغير المؤمن ... ومع هذا لا ينكر أحد أن الإيمان والتدين الصحيح والأصيل يعطي قدرة على الصمود في وجه مصاعب الحياة، ويكون عاملا مهما في سرعة التعافي من الأمراض بما يمنحه للإنسان من معاني الصبر والرضا والتسليم بأقدار الله وتقبل الابتلاءات، ولكن مرة أخرى لا يمنع حدوث الأمراض بشكل مطلق ولكن يعطي مناعة نسبية ويسرع عملية التعافي.
وإلصاق تهمة ضعف الإيمان بمن أصيبوا بالاكتئاب يزيد من وصمة المرض النفسي ويجعل المريض عازفا عن الاعتراف بمرضه النفسي وعازفا عن محاولة البحث عن علاج، ويكتم مرضه في نفسه إلى أن يستفحل المرض أو يتحول إلى اضطرابات جسدية خطيرة مثل ارتفاع ضغط الدم أو الذبحات والجلطات القلبية أو الجلطات المخية أو نزيف المخ، أو يقوم المريض بإيذاء نفسه والذي قد يصل إلى الانتحار.
ثانيا : هناك دليل من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يمكن أن يصاب بأعراض نفسية (تماثل الاكتئاب) وأعراض جسدية، وأنها تكون اختبارا له ويؤجر على صبره عليها. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب المؤمن من هم ولا غم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه" (رواه مسلم) .
ـ كيف يقدم المريض على إيذاء أو قتل أقرب الناس إليه (الأبناء مثلا)؟
رأينا في السنوات الأخيرة أب يضرب ابنه بخرطوم الغسّالة حتى الموت، زوج يقتل زوجته ويضع السم لأبنائه الأربعة فتموت اثنتان وينجو اثنان بأعجوبة، أب يعلق طفليه في السقف ويضربهما فيموت أحدهما تحت التعذيب وينجو الآخر في اللحظات الأخيرة ليحكي ما حدث، أب يقتل بناته الخمس وتنجو منه واحدة بسبب خلافات مع زوجته، مهندس يقتل زوجته وابنه وابنته ببلطة وسكين مشرشرة خشية الفقر والاحتياج، امرأة تقتل طفلها لأنه رآها في أحضان عشيقها. حوادث بشعة تجاوز فيها العنف السقف المتوقع في السلوك الإنساني خاصة داخل الأسرة، فالأب والأم يتوقع منهما الحب لأبنائهما ورعايتهما وحمايتهما من أي خطر وسوء، فها هما يصبحان أكبر خطر يهدد أبنائهما، وقديما كنا نستبعد أن يكون الأب القاتل لأبنائه أو الأم القاتلة لأبنائها في حالة سواء نفسي وكنا نطالب بعرضهم على التقييم النفسي المتخصص، إذ لا يتصور من العلاقة الوالدية في حدودها الطبيعية أن تصل إلى قتل الابن أو البنت حيث ثمة عتبة من القسوة يجب الوصول إليها لتتجاوز كل عتبات الحب والرعاية الوالدية. وبعبارة أخرى فقد دخلت المجتمعات في نطاق القتل اللامعقول للأطفال والكبار داخل الأسرة الواحدة، وإذا كنا في الماضي نتحدث عن عقوق الأبناء للآباء والأمهات، فنحن اليوم نتحدث عن جحود وقسوة ووحشية الآباء والأمهات.
وتكرار هذه الأحداث بكثرة في السنوات الأخيرة، وفي الشهور الأخيرة، وانفجارها في الأيام الأخيرة يوحي بأن ثمة زلزال يهدد الكيان الأسري، وأن الأسرة مأزومة بدرجة تدعو إلى القلق، وأن حالة التأزم هذه تضع الوالدين على حافة العنف، وليس فقط العنف بل العنف المفرط في القسوة، فما هي إذن معالم وأسباب هذه الأزمة الأسرية؟!
ويتبع >>>>>>: المرض النفسي أسراره وآثاره2
واقرأ أيضا:
ظاهرة "المستريح الدائم"3 / ظاهرة "المستريح الدائم"4