دخل المفهوم الحديث للتواكب المرضي أو الاعتلال المشترك في عالم الطب لوصف وجود أكثر من مرض من الأمراض الطبية المزمنة في نفس الشخص سنة 1970 عندما صاغه فينشتاين Feinstein ليعني "أي كيان سريري إضافي مميز كان موجودًا أو قد يحدث أثناء المسار السريري لمريض مصاب بالمرض المعين قيد الدراسة." ويقتصر استخدام المصطلح على الأمراض أو الاضطرابات، وليس الأعراض. إذ يمكن أن ترتبط الأعراض أو تحدث بشكل متزامن، ولكنها لا تترافق مع الاضطرابات أو مع بعضها البعض (Feinstein, 1970)، وبعد 4 سنوات قدم كابلان وفينشتاين أيضًا عددًا من الفروق حول أنواع التواكب (Kaplan & Feinstein, 1974) لتوضيح مفاهيم الاعتلال المشترك التي تظهر في الطب بشكل عام، وربما في الطب النفساني، فقد ميزوا بين ثلاثة أنواع من التواكب المرضي الإمراضي (مسبب المرض) Pathogenic والتشخيصي Diagnostic والتنبئي (الإنذاري) Prognostic. ينشأ التواكب الإمراضي عندما يؤدي مرض معين إلى بعض المضاعفات أو الأمراض الأخرى، والتي تعتبر بالتالي مرتبطة بالمسببات. وأما التواكب التشخيصي فيحدث عندما تستند معايير التشخيص إلى أنماط الأعراض غير المحددة بشكل فردي (كما يحدث عند تطبيق معايير التشخيص في الطب النفساني)، وأما الاضطرابات التي تؤهب المريض لتطوير اضطرابات أخرى فإنها تسمى تواكب تنبئي.
وأما في الطب النفساني وفي نفس سنة 1970 طرح روبينز وجيز (Robins & Guze, 1970) حجة قوية لضرورة تقديم أدلة تجريبية، من خلال الأوصاف السريرية الدقيقة وتحديد المتلازمات، وهي المعايير الرئيسة للتشخيص النفساني... وبعدها بسنوات أربع أي سنة 1974 بدأ العمل على وضع محكات تشخيصية للاضطرابات النفسية مع افتراض تسلسل هرمي يعتبر مثلا أن وجود اضطراب الفصام يجُبُّ ما عداه من اضطرابات وهكذا.. بل تعلمنا في ثمانينات القرن الماضي أن عباءة الفصام يمكنها احتواء كل الأعراض والعلامات في الطب النفساني ولا يستدعي ذلك تشخيصا آخر -وهو فهم ثبت قصوره-، لكن كانت الممارسة التقليدية لفهم وشرح جميع أعراض وعلامات الشخص الذي يتقدم إلى مرافق الصحة العقلية متزامنة مع نظام التصنيف الهرمي. وكان القول السريري (الإكلينيكي) هو لـ "شخص واحد تشخيص واحد" يتماشى مع أنظمة التصنيف المبكرة حيث تم ترتيب مجموعات التشخيص في تسلسل هرمي وتم تشجيع الأطباء بنشاط للوصول إلى تشخيص واحد لجميع الخبرات والسلوكيات المشكلة لكل شخص. فمثلا عندما يصادف الطبيب مريضًا يعاني من إدمان تعاطي الكحول وخصائص اكتئابية معتبرة، كان من الضروري تحديد الحالة الأولية للاثنين، لأن العلاج سوف يوجه للحالة أو الاضطراب الأولي فمثلا في حالة وجود الاكتئاب الجسيم أو أي من اضطرابات القلق في مريض فصام فإن العلاج الموجه للفصام يكون كافيا وهكذا كان علاج الاكتئاب في مريض الفصام هو علاج الفصام ونفس الشيء كان يقال عن أعراض الوسواس القهري في مريض الفصام.... إلا أن هذه الرؤية الاختزالية لم تصمد طويلا فبعد فترة وجيزة وفي عام 1984نشر بحث رائد لبويد ومجموعته Boyd et al., 1984)). أجري على عينة كبيرة تمثل المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية أفاد أن هناك "اتجاها عاما نحو التواكب المرضي أو الاعتلال المشترك، بحيث أدى وجود أي اضطراب إلى زيادة احتمالات الإصابة بأي اضطراب آخر تقريبًا". وقدمت مجموعة بويد تعريفا للتواكب المرضي في الطب النفساني على أنه "الخطر النسبي لشخص مصاب باضطراب ما، لتلقي تشخيص اضطراب آخر"، وبالتدريج بدأ السماح بتشخيص طبنفساني لأكثر من اضطراب في نفس الشخص، حتى أصبحت الأنظمة الحالية لـ DSM-5 و ICD-11 تشجع التشخيصات المتعددة في نفس الشخص بنشاط، بغض النظر عن المساهمة المحتملة في المسببات المرضية، مما يسمح بأكبر قدر من المعلومات التشخيصية. وفي عام 1990، عرّف بيرك (Burke, et al., 1990) التواكب المرضي بأنه "وجود أكثر من اضطراب واحد محدد في شخص ما في فترة زمنية محددة".
ماذا يعني التواكب المرضي في الطب النفساني وماذا يقتضي؟
هل يعني أن الشخص لديه المرض "أ" ولديه المرض "ب" معا بالصدفة؟ أم أن علاقة ما توجد في سبب واحد للمرضين؟ وما نوع العلاقة؟ هل هي علاقة وراثية؟ وما تأثير وجود "أ" و "ب" معا... والحقيقة إن النطاق الواسع من الأمراض المواكبة التي شوهدت عبر اضطرابات المحورين الأول والثاني وفقًا لأنظمة التصنيف الحالية في الطب النفساني هي في حد ذاتها متنوعة ومتباينة تمامًا بما يستبعد معه وجود أي تفسير أو فرضية موحدة للتواكب المرضي بين الاضطرابات النفسانية، ناهيك عن العلل الطبية الجسدية (كمرض الضغط والبول السكري...إلخ) المواكبة للاضطرابات النفسانية (Maj, 2005) وهناك تفسيرات مختلفة، يمكن أن تكون لدينا أربعة نماذج توضيحية للآليات السببية لفهم تواجد مجموعة متنوعة من الأمراض المتواكبة. الأول، الاضطراب "أ" يهيئ الفرد للاضطراب "ب"، مثلا اضطرابات القلق تهيئ الشخص للكحول أو غيره من اضطرابات تعاطي المخدرات. الثاني، أي من الاضطرابين "أ" أو "ب" قد يؤهب الفرد للاضطراب الآخر، مثلا القلق والاكتئاب والكحول والاكتئاب. الثالث، قد تساهم آلية بيولوجية أساسية أو سلوكية معرفية واحدة في حدوث اضطرابين "أ"+"ب" أو أكثر، مثلا الآليات الكيميائية كخلل السيروتونين أو غيره من الناقلات العصبية (أو سمة شخصية كمالية) في الاكتئاب والوسواس القهري، الرابع، قد يؤهب اضطراب الشخصية في المحور الثاني أو عدم انتظام الحالة العقلية للفرد لاضطرابات المحور الأول. باعتبار الاضطرابات هي ردود أفعال لنقاط الضعف الفردية (سمات اضطراب الشخصية) للمحفزات البيئية المؤذية (Zimmerman & Mattia, 2000).
صحيح أن دراسة الاختلافات بين الأنماط المختلفة لتواكب الاضطرابات النفسانية يفتح أبوابا كثيرة ربما لفهم آليات الإمراضية النفسانية أو أسبابها، ولكن الأولى والأجدر بالدراسة هو الإجابة على سؤال ما الذي يقتضيه وجود تواكب مرضي في مريض بعينه؟ لأن المريض الذي كنا نعرف معاناته من اضطراب واحد صار يعاني أكثر من اضطراب أي لابد من توقع زيادة العبء على المريض، ولأن معرفة وجود اضطراب مواكب لابد ستؤثر كذلك على خطة العلاج وعلى اختيار العقَّار الأنسب، ولأن وجود اضطراب مواكب دون علاج يعيق علاج الاضطراب الآخر بطريقة أو بأخرى، وأخيرا أظهرت دراسات عديدة (Pallanti et al.,2011) أن وجود اضطراب مواكب أو أكثر مع الاضطراب المستهدف علاجه سبب رئيسي لعدم الاستجابة للعلاج بكل أنواعه.
كانت هذه مقدمة مختصرة عن مفهوم التواكب المرضي في الطب النفساني بشكل خاص، ثم نركز فيما يلي من المقالة على التواكب المرضي في حالات اضطراب الوسواس القهري واضطرابات طيف الوسواس القهري، خاصة وأن الوسواس القهري اضطراب يتميز بارتفاع معدلات التواكب المرضي (Brakoulias et al., 2017) والتي تزيد عن 90% في دراسات كثيرة ولا تقل عن 50 في أغلب الدراسات، لذا فإن إحدى أكثر الصفات السريرية المميزة لمرضى الوسواس القهري هي وجود اضطرابات نفسية مواكبة له. وطبقا للعديد من الدراسات فإن الاضطرابات المواكبة كانت اضطرابات المزاج (اضطراب الاكتئاب الجسيم)، واضطرابات القلق (اضطراب القلق المعمم، وأنواع الرهاب)، ثم العرات Tics واضطرابات الطيف الوسواسي المختلفة OCRDs وكذلك اضطرابات النماء العصبي Neurodevelopmental Disorders مثل اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة، وأخيراً اضطرابات الشخصية.
وبالتأكيد تتطلب الاضطرابات المواكبة المختلفة تعديل خطة العلاج والأهداف، فمثلا يفتقر بعض مرضى الوسواس المصابين بالاكتئاب المرضي الشديد إلى الموارد اللازمة للتعاون مع نظام العلاج وقد يحتاجون إلى العلاج الدوائي بالإضافة إلى زيادة العلاج النفساني، وفي حالة وجود اكتئاب ثناقطبي لابد من التأني في وصف العلاج، والأمثلة كثيرة في الواقع السريري ، وسنحاول فيما يلي من أجزاء المقالة توضيح ذلك بينما نعرض محاولات تصنيف لاضطراب الوسواس القهري على أساس ما يواكبه أي حسب الاضطرابات المواكبة، كذلك سنعرض الخصائص المميزة لأشهر عروض التواكب السريرية لاضطراب الوسواس القهري: وسواس قهري+ وخلافه:
المراجع:
1- Feinstein AR. The pre-therapeutic classification of co-morbidity in chronic disease. J Chronic Dis 1970; 23: 455-68.
2- Robins E, Guze SB. Establishment of diagnostic validity in psychiatric illness: Its application to schizophrenia. Am J Psychiatry. 1970;126:983–6.
3- Boyd JH, Burke JD, Jr, Gruenberg E, et al. Exclusion criteria of DSM-III. A study of co-occurrence of hierarchy-free syndromes. Arch Gen Psychiatry. 1984;41:983–9.
4- Kaplan MH, Feinstein AR. The importance of classifying initial comorbidity in evaluating the outcome of diabetes mellitus. J Chronic Dis 1974; 27: 387-404.
5- Burke JD, Wittchen HU, Regier DA, et al. Extracting information from diagnostic interview on co-occurrence of symptoms of anxiety and depression. In: Maser JD, Cloninger CR, editors. Co-morbidity of anxiety and depressive disorders. Washington DC: American Psychiatric Press; 1990. pp. 649–67.
6- Maj M. Psychiatric comorbidity—an artifact of current diagnostic systems. Br J Psychiatry. 2005;186:182–4.
7- Zimmerman M, Mattia JI. Principal and additional DSM-IV disorders for which outpatients seek treatment. Psychiatr Serv. 2000;51:1299–1304.
8- Pallanti S, Grassi G, Sarrecchia ED, Cantisani A & Pellegrini M (2011). Obsessive–Compulsive Disorder Comorbidity: Clinical Assessment and Therapeutic Implications.Front Psychiatry. Dec 2011|V 2|Article70|3. doi: 10.3389/fpsyt.2011.00070
9- Brakoulias, V., Starcevic, V., Beloch, A., Brown, C., Ferrao, Y.A., Fontenelle, L.F., Lochner, C., Marazziti, D., Matsunaga, H., Miguel, E., Reddy, Y.C.J., do Rosario, M.C., Shavitt, R.G., Shyam Sundar, A., Stein, D.J., Torres, K., 2017. Comorbidity, age of onset and suicidality in obsessive-compulsive disorder (OCD): an international collaboration. Compr. Psychiatry 76, 79–86.
ويتبع>>>>>>: التواكب المرضي مع الوسواس القهري التصنيف
واقرأ أيضًا:
التحاس (التحويل الحسي) في الحواس الخاصة / الجهاز البصري III :الباحات البصرية القشرية