قشرة المخ قبل الجبهية Prefrontal Cortex ق.ج1
يمكننا تقسيم قشرة المخ الجبهية (الأمامية) في دماغ الثدييات، إلى جزئين كبيرين خلفي وأمامي يحتوي الجزء الخلفي على القشرة الحركية الأساسية Motor Area في التلفيف قبل المركزي (تقع في أقصى الخلف)، وتتحكم في جميع الحركات الإرادية للجانب المقابل من الجسد، إضافة إلى القشرة الحركية الترابطية أو قبل الحركية Premotor Area ، وأما الجزء الأمامي من قشرة المخ الجبهية فهو المسمى بالقشرة قبل الجبهية Prefrontal Cortex أو الجبهية الأمامية وكثيرا ما يشار إليها بالقشرة الجبهية اختصارا، وتتولى قشرة الفص الجبهي في المخ وظائف العقل التنفيذية والتي تسمى بالوظائف الجبهية التنفيذية Frontal Executive Functions مثل المسؤولية عن تخطيط، وتنفيذ الأفعال، والمهام المتعلمة، والواعية. إضافة إلى أن الفص قبل الجبهي هو موقع العديد من الوظائف المثبطة سواء على المستوى الحركي أو العاطفي/الانفعالي. هناك ما لا يقل عن 5 مناطق متميزة وظيفيًا في الفص قبل الجبهي، ولكن قبل أن نشير إليها وإلى وظائفها المحتملة يجب أن نبين عدم وجود اتفاق بين الدراسين على تقسيم واحد للقشرة المخية قبل الجبهية وأن الدراسات ما تزال تجري لأجل استيضاح أكثر وأهم ما تشير إله نتائجها هو الأهمية الفائقة لمقدمة المخ أو مقدمة الدماغ التي أشار إليها القرآن الكريم بالناصية وهي الآن علميا الجزء من الدماغ الذي يمثل حقًا مركز التحكم في الدماغ.
معظم المعلومات التي أمكن الحصول عليها تأتي من مصدرين الأول هو دراسات الحالة التي تتم فيها دراسة معمقة لحالات الإصابات التي تؤدي إلى تلف شامل أو جزئي للفص الجبهي أو قبل الجبهي وتاريخيا كان هذا المصدر هو الوحيد إلى جانب الترجمة من الدراسات على الحيوان، إلى أن دخلت العلوم العصبية والنفسية عصر التصوير الدماغي عالي التقنية بداية من التصوير المقطعي المحوسب بالأشعة السينية Computed Tomography إلى التصوير بالرنين المغناطيسي Magnetic Resonance Imaging التركيبي Structural MRI ثم التصوير الوظيفي بالرنين Functional MRI، ثم التصوير المقطعي المحوسب بانبعاث البوزيترون Positron Emission Tomography أو بانبعاث فوتون واحد SPECT وهذه التقنياتُ المتطورة تعطي فكرة عن معدل النشاط "عمليات الأيض (الاستقلاب) أو معدل تدفق الدم أو الأكسجين" في مناطق المخ المختلفة، بحيث يمكن إجراء التصوير أثناء تعريض أفراد الدراسة لمهمات مصممة لتحفيز مشاعر معينة أو مهام عقلية أو حركية معينة ومعرفة أي المناطق أكثر نشاطا مقارنة بغيرها، من هنا تأتي المعرفة الخاصة بوظائف البنى الدماغية المختلفة خاصة عند تطابق ملاحظات دراسات حالات التلف مع نتائج دراسات التصوير الوظيفي للمخ، ولعلنا فيما يخص الفص الجبهي سنجد تطابقا نموذجيا كما في حالات زملة الفص الجبهي Frontal Lobe Syndrome.
واضح مما سبق أن القشرة قبل الجبهية بكل أجزائها أو تقسيماتها (غير المتفق عليها لا تشريحيا ولا وظيفيا) تهمنا بشكل عام في الطب النفساني لأنها تشرح الآلية العصبية التي يتم بها السلوك البشري، وقد حظيت كلٌّ من المناطق الخمس المتميزة وظيفيًا في الفص قبل الجبهي بتلال من دراسات التصوير العصبي الوظيفي وغيرها لتحديد دورها إما في الوظائف التنفيذية أو في معالجة المشاعر أو اتخاذ القرارات، وكذلك في اختلاف مستوى النشاط فيها أو تغير حجمها في مرضى الاضطرابات النفسانية مقارنة بغيرهم...إلخ، فسواء القشرة قبل الجبهية الظهرية الوحشية. ق.ج.ظو Dorsolateral Prefrontal Cortex DLPFC أو القشرة قبل الجبهية البطنية الوحشية ق.ج.بو VLPFC Ventrolateral Prefrontal Cortex أو القشرة قبل الجبهية الظهرية الإنسية Dorsomedial Prefrontal Cortex (ق.ج.ظا DMPC أو dmPFC) أو قشرة المخ قبل الجبهية البطنية الإنسية أو ق.ج.با VMPC أو vmPFC أو القشرة الجبهية الحجاجية (المدارية) ق.ج.ح OFC Orbitofrontal Cortex كلها بوضوح تهم الطبيب النفساني، وسنحاول فيما تبقى من هذه المقالة أن نستعرض بعضا من المعطيات العلمية الحديثة بخصوص القشرة قبل الجبهية، مذكرين بأن عدم وجود تقسيم تشريحي أو وظيفي متفق عليه لهذ الجزء من قشرة المخ مسؤول إلى حد كبير عن التداخل والتضارب أحيانا بين نتائج الدراسات المختلفة.
1- ق.ج.ظو DLPFC :
مثلها مثل باقي الأجزاء ليست ق.ج.ظو بنية تشريحية، بل وظيفية تقع في التلفيف الجبهي الأوسط (أي الجزء الجانبي من منطقة برودمان 9 و46) وترتبط ق.ج.ظو بكل من ق.ج.ح والمهاد، وأجزاء من النوى القاعدية (النواة المذنبة الظهرية)، والحصين، ومناطق الارتباط الأولية والثانوية للقشرة المخية الحديثة (بما في ذلك المناطق الصدغية الخلفية والجدارية والقذالية). وهي أيضًا نقطة النهاية للمسار الظهري والذي يهتم بكيفية التفاعل مع المنبهات (Takahashi et al., 2013).
تقليديًا تُعتبر ق.ج.ظو باحة دماغية تعالج فيها المعلومات المكتسبة حديثًا وترتبط بالوظائف التنفيذية العامة مثل تبديل المهام وإعادة تكوين مجموعة المهام، ومنع التداخل، والتثبيط، والتخطيط، وذاكرة العمل** Working Memory ورغم أن ق.ج.ظو لا تعتبر باحة لغوية أساسية، فقد ثبت تنشيطها في مهام الكلام واللغة، كما تشارك ق.ج.ظو في اتخاذ القرارات الخطرة والأخلاقية على حد سواء؛ عندما يتعين على الأفراد اتخاذ قرارات أخلاقية مثل كيفية توزيع الموارد المحدودة، يتم تنشيط ق.ج.ظو، وتنشط هذه المنطقة أيضًا عندما تكون تكاليف وفوائد الخيارات البديلة ذات أهمية. وعند وجود خيارات لاختيار البدائل، فإن ق.ج.ظو تثير تفضيلًا تجاه الخيار الأكثر إنصافًا وتقمع إغراء تحقيق أقصى قدر من المكاسب الشخصية (Duncan et al., 2000) وعلى العكس من ذلك قد تكون ق.ج.ظو أيضًا متورطةً في فعل الخداع والكذب (Ito et al., 2012) إذ يُعتقد أنها المسؤولة عن تثبيط الميل الطبيعي لقول الحقيقة. ومن الأبحاث ما يشير إلى أن استخدام الحث المغناطيسي عبر الدماغ TMS على ق.ج.ظو يمكن أن يعيق قدرة الشخص على الكذب فلا يملك خيارا إلا قول الحقيقة.
إضافة لذلك تشير الأدلة الداعمة إلى أن ق.ج.ظو قد تلعب أيضًا دورًا في تعديل السلوك الناجم عن الصراع، مثلا عندما يقرر الفرد ما يجب فعله عند مواجهة قواعد متضاربة. وقد ترتبط ق.ج.ظو أيضًا بالذكاء البشري. إذ تشير دراسات التصوير مثل التصوير المقطعي الوظيفي إلى مشاركة ق.ج.ظو في الاستنتاج المنطقي والقياسي. على وجه التحديد، عند المشاركة في الأنشطة التي تتطلب التفكير المنطقي، تكون مناطق ق.ج.ظو على الجهة اليسرى نشطة بشكل خاص وثابت. (Kane, et al., 2002)
ورغم أن ق.ج.ظو من بين فصوص الفص الجبهي، تبدو الأقل تأثيرا بشكل مباشر على السلوك الاجتماعي، لكن يبدو أنها تعطي الوضوح والتنظيم للإدراك الاجتماعي. فهي تساهم في الوظائف الاجتماعية من خلال تشغيل الوظائف التنفيذية لتخصصها الرئيسي، مثلا عند التعامل مع المواقف الاجتماعية المعقدة. ومن المجالات الاجتماعية التي يتم فيها البحث في دور ق.ج.ظو فيها حاليا المنظور الاجتماعي واستنتاج نوايا الآخرين أو نظرية العقل، وقمع السلوك الأناني، والالتزام في العلاقة (Petrican & Schimmack, 2008).
كما ثبتت علاقة ق.ج.ظو المفترضة من قديم مع اضطراب الوسواس القهري حيث يظهر مرضى الوسواس القهري انخفاض الاتصال الوظيفي بين ق.ج.ظو اليمنى وق.ج.ح اليمنى، وللنشاط في الأخيرة تأثير مثبط على ق.ج.ظو اليمنى (Li et al., 2020). وإن لم يتم تحديد دورها الخاص في هذا الصدد بالتفصيل حتى اللحظة (Hertrich et al., 2021). وقد أشارت عدة دراسات حديثة إلى أن خلل ق.ج.ظو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسمات أعراض الوسواس القهري، بما في ذلك الشك المفرط وتكرار الأفعال. كما وجد انخفاض في حجم وسمك ق.ج.ظو في مرضى الوسواس القهري مقارنةً بالأصحاء (Boedhoe et al., 2018)، كذلك كانت ق.ج.ظو هي الهدف الأكثر بحثًا للعلاج غير الجراحي بالتعديل العصبي Neuromodulation في اضطراب الوسواس القهري (Li et al., 2020).، وهناك كثير من الأدبيات تشير إلى تدهور أداء ق.ج.ظو في مرضى الفصام ومرضى الاكتئاب وكذا مرضى الكرب التالي للرضح.
2- ق.ج.بو VLPFC:
وتغطي التلفيف الجبهي السفلي وتشمل تشريحيا باحات برودمان Brodmann Areas 44 و45 و47 وتقسم إلى 3 باحات فرعية: (الأمامية والمتوسطة والخلفية). وهناك اختلافات وظيفية محددة في النشاط في ق.ج.بو على الجانبين أي الأيمن والأيسر. فقد أظهرت دراسات التصوير العصبي التي تستخدم مهام معرفية مختلفة أن ق.ج.بو اليمنى هي ركيزة أساسية للتحكم المعرفي، كما تنشط ق.ج.بو اليمنى بالكامل أثناء التثبيط الحركي، ولها دور حاسم، بمعنى أنه عندما يمشي الشخص ويتوقف فجأة، تنشط ق.ج.بو لإيقاف أو تجاوز النشاط الحركي في قشرة المخ، كما تنشط ق.ج.بو على اليمين عند وضع المشاعر في كلمات (Tabibnia et al., 2008) في حين أن ق.ج.بو اليسرى والتي تتداخل إلى حد كبير مع المنطقة الدماغية المعروفة لإنتاج الكلام والمعالجة الدلالية/الصوتية للغة، مسؤولة عن مجموعة متنوعة من المهام اللفظية وغير اللفظية (Fu et al., 2018)، وأخيرا لـ ق.ج.بو علاقة كذلك بالشك في القرار وتحديث خطط العمل (Levy & Wagner, 2011). حيث تتلقى ق.ج.بو معلومات حسية مفصلة حول الظروف من المسار البطني (والذي يحمل المعلومات البصرية المتعلقة بشكل الأشياء والكائنات والتعرف عليها)، والمعلومات التحفيزية والعاطفية من القشرة الجبهية الحجاجية "ق.ج.ح" والمناطق تحت القشرية، ومن خلال دمج هذه المعلومات المعرفية والتحفيزية، ومعالجة ق.ج.بو لها على أساس الأهمية السلوكية، يمكن اتخاذ القرارات المتعمدة اللازمة للسلوك الهادف (Sakagami and Pan, 2007).
المراجع:
1-Takahashi, Emi; Ohki, Kenichi; Kim, Dae-Shik (2013). "Dissociation and Convergence of the Dorsal and Ventral Visual Streams in the Human Prefrontal Cortex". NeuroImage. 65: 488–498. doi:10.1016/j.neuroimage.2012.10.002
2- Duncan J, Owen AM. (2000). Common regions of the human frontal lobe recruited by diverse cognitive demands. Trends Neurosci. 2000 Oct;23(10):475-83.
3- Ito A, Abe N, Fujii T, Hayashi A, Ueno A, Mugikura S, Takahashi S, Mori E. (2012). The contribution of the dorsolateral prefrontal cortex to the preparation for deception and truth-telling. Brain Res. 2012 Jun 29;1464:43-52.
4- Kane MJ, Engle RW. (2002). The role of prefrontal cortex in working-memory capacity, executive attention, and general fluid intelligence: an individual-differences perspective. Psychon Bull Rev. 2002 Dec;9(4):637-71. doi: 10.3758/bf03196323. PMID: 12613671.
5- Petrican R, & Schimmack U. (2008). The role of dorsolateral prefrontal function in relationship commitment, Journal of Research in Personality, Volume 42, Issue 4, 2008, Pages 1130-1135, ISSN 0092-6566, https://doi.org/10.1016/j.jrp.2008.03.001.
6- Li H, Hu X, Gao Y, Cao L, Zhang L, Bua X, Lu L, Wang Y, Tang S, Yangc Y, Biswal BB, Gong Q and Huang x (2020). Neural primacy of the Dorsolateral Prefrontal Cortex in patients with OCD. NeuroImage: Clinical 28 (2020) 102432
7-Hertrich I, Dietrich S, Blum C, Ackermann H. (2021). The Role of the Dorsolateral Prefrontal Cortex for Speech and Language Processing. Front Hum Neurosci. 2021 May 17;15:645209. doi: 10.3389/fnhum.2021.645209. PMID: 34079444; PMCID: PMC8165195.
8-Boedhoe, P.S.W., Schmaal, L., Abe, Y., Alonso, P., Ameis, S.H., Anticevic, A., Arnold, P.D., Batistuzzo, M.C., Benedetti, F., Beucke, J.C., Bollettini, I., Bose, A., Brem, S., Calvo, A., Calvo, R., Cheng, Y., Cho, K.I.K., Ciullo, V., Dallaspezia, S., Denys, D., Feusner, J.D., Fitzgerald, K.D., Fouche, J.P., Fridgeirsson, E.A., Gruner, P., Hanna, G.L., Hibar, D.P., 9-Hoexter, M.Q., Hu, H., Huyser, C., Jahanshad, N., James, A., Kathmann, N., Kaufmann, C., Koch, K., Kwon, J.S., Lazaro, L., Lochner, C., Marsh, R., Martinez-Zalacain, I., Mataix-Cols, D., Menchon, J.M., Minuzzi, L., Morer, A., Nakamae, T, Nakao, T., Narayanaswamy, J.C., Nishida, S., Nurmi, E., O'Neill, J., Piacentini, J.,Piras, F., Piras, F., Reddy, Y.C.J., Reess, T.J., Sakai, Y., Sato, J.R., Simpson, H.B., Soreni, N., Soriano-Mas, C., Spalletta, G., Stevens, M.C., Szeszko, P.R., Tolin, D.F., van Wingen, G.A., Venkatasubramanian, G., Walitza, S., Wang, Z., Yun, J.Y., Group, E.-O.W., Thompson, P.M., Stein, D.J., van den Heuvel, O.A., Group, E.O.W., (2018). Cortical Abnormalities Associated With Pediatric and Adult Obsessive-Compulsive Disorder: Findings From the ENIGMA Obsessive-Compulsive Disorder Working Group. Am J Psychiatry 175, 453-462.
10-Tabibnia, G., Lieberman, M. D., & Craske, M. G. (2008). The lasting effect of words on feelings: words may facilitate exposure effects to threatening images. Emotion,8(3), 307.
11- Fu, L., Xiang, D., Xiao, J., Yao, L., Wang, Y., Xiao, L., et al. (2018). Reduced Prefrontal Activation During the Tower of London and Verbal Fluency Task in Patients With Bipolar Depression: a Multi-Channel NIRS Study. Front. Psychiatry 9:214. doi: 10.3389/fpsyt.2018.00214
12- Levy BJ, Wagner AD. (2011). Cognitive control and right ventrolateral prefrontal cortex: reflexive reorienting, motor inhibition, and action updating. Ann N Y Acad Sci. 2011 Apr;1224(1):40-62. doi: 10.1111/j.1749-6632.2011.05958.x. PMID: 21486295; PMCID: PMC3079823.
13- Sakagami M & Pan X (2007). Functional role of the ventrolateral prefrontal cortex in decision making, Current Opinion in Neurobiology, Volume 17, Issue 2, 2007,
** ذاكرة العمل Working Memory (وليس الذاكرة العاملة كما يشيع خطأً) هي النظام الذي يحتفظ بفاعلية بقطع متعددة من المعلومات المؤقتة في العقل، حيث يمكن التلاعب بها.
ويتبع : قشرة المخ قبل الجبهية Prefrontal Cortex ق.ج2
واقرأ أيضًا:
الوظائف الجبهية التنفيذية من المذاكرة إلى الطب النفسي / الجهاز البصري III :الباحات البصرية القشرية