الدكتور محمد غنيم1
وتكمن عبقرية الدكتور غنيم في أنه انتصر على نفسه فلم يسع نحو المال، وعاش عيشة بسيطة، فما لايعرفه عنه كثير من الناس أن هذا الطبيب العظيم مازال يعيش في شقة بالإيجار في شارع الجمهورية، سكن فيها منذ مطلع شبابه حين حضر إلى المنصورة كمعيد في الجامعة، وهو يركب سيارة قديمة مستعملة، وقد أتاه المال من الشرق والغرب فوضعه بأكمله في مركز الكلى الذي وهب حياته لإقامته ليكون صرحا طبيا وعلميا مرموقا، ولم يكن هدفه التباهي أو التقاط الصور، وإنما سعى لأن يقدم خدمة طبية عالية جدا لفقراء مصر بالمجان. ومن زار هذا المركز يرى معجزة تتبدى في مستوى النظافة والنظام والانضباط والجمال في المنشآت والحدائق فكأن كل تفصيلة صغيرة قد أخذت من الاهتمام الكثير، فقد أحاط بالرجل كثيرون من رفاقه وتلاميذه ومحبيه أعطوا أقصى ماعندهم ليجعلوا هذا الصرح الطبي العلمي في أعظم وأرقى وأجمل صورة، وهم قد فعلوا ذلك وما يزالون حين شهدوا بأعينهم هذه المعجزة المتمثلة في شخص غنيم شديد التجرد، شديد الإخلاص، شديد الترفع عن مغانم الحياة ورفاهتها.
وعبقرية غنيم كإنسان تتبدى بصور متعددة فهو قد حظي بزيارة السادات ومبارك له في مركزه, وحظي بعلاقات الوزراء والعلماء وكبار المثقفين، ومع هذا تجده يشاهد مبارايات كرة القدم في مدرجات الدرجة الثالثة باستاد المنصورة، وتجده يلعب الكرة في نادي استاد المنصورة مع الصنايعية والبياعين من أبناء المنصورة ويتعامل معهم كأنه واحد منهم ويتحدث بلغتهم ويستخدم مفرداتهم حين يفرح وحين يغضب، ويذهب إلى شواطئ البحر الأحمر أو مرسى علم يمارس هواية الغوص والتصوير تحت الماء، وله علاقات وثيقة بأعظم علماء العالم في تخصصه، وعلى الرغم من تركيبته الجسمانية والشخصية الأرستقراطية إلا أنه يتصرف ويتحدث في كثير من الأحيان كمصري شعبي بسيط.
وفي مركز الكلى لا يتهاون أبدا في أي تقصير ويقد يستخدم كلمات حادة أو قاسية أو حتى غير متوقعة ممن هم في مثل قامته العلمية، ولكنه في ذات الوقت يهتم برعاية العاملين معه من أول عمال النظافة إلى أعلى وظيفة في المركز، فمع شدته على عامل أو عاملة نظافة قصّرا يوما في أداء واجباتهما تجده يزورهما في بيوتهما إن أصابهما مكروه ويدعمهما بكل مايستطيع إذا اشتد بهم الحال، وتراه يقسو على تلاميذه من الأطباء حتى يخرج منهم أفضل مالديهم من علم وعمل وطاقة وتفاني، وقد يستخدم معهم كلمات صعبة لاتستخدم مع أمثالهم، ولكنهم يتقبلون ذلك منه لأنهم يعرفون إخلاصه وتجرده، ويلمسون بأنفسهم حرصه الشديد على رعايتهم علميا وعمليا وإنسانيا، فقد حرص طوال حياته على تعليمهم وتدريبهم في أفضل المستشفيات والمعاهد والجامعات في أي مكان في العالم، إضافة إلى تدريبهم في مركزه وعلى يديه حتى أصبحوا من أهم كبار العلماء في تخصصهم، والعبقري لاتتبدى عبقريته في ذاته فقط وإنما فيما يخلفه من تلاميذ عباقرة، وكما تفرغ هو لمهمته العلمية والإنسانية فلم يفتح عيادة في حياته ولم يتكسب من عبقريته الطبية في زراعة الكلى شيئا، وكان يشترط على تلاميذه التفرغ لعملهم في المركز ويحاول أن يعوضهم قدر الإمكان عن تكلفة تفرغهم وتنازلهم عن التكسب من العمل الطبي الخاص.
اعتاد الدكتور غنيم أن يقضي أوقاتا طويلة في مركز المسالك ليلا ونهارا وحتى بعد أن يذهب لبيته، يعود فجأة في أي وقت ليتابع التزام الجميع بمنظومة العمل، فهو حاضر في المكان في كل وقت وفي أي وقت ليتابع حتى التفاصيل الصغيرة جدا في غرفة العمليات أو في مركز الأشعة أو في عنابر المرضى أو في ردهات المستشفى، أو في المطبخ أو المغسلة، أو الحدائق المحيطة بالمركز، أو في ساحات انتظار السيارات، أو على البوابة.
ويعرف عن غنيم أنه كان يتدخل في كل التفاصيل سواء أثناء الإنشاءات حيث كان يقف مع العمال والمهندسين ويناقشهم ويجادلهم ويصحح مايحتاج لتصحيح، وكان يصعد على السقالات ليرى كيف سيصير البناء، أو يكتشف خطأ ما ينبههم عليه، وكان يختار أجهزة المركز بعناية شديدة حتى في التخصصات المساعدة كالباطنة والأشعة والتعقيم والنظافة، وكان البعض يراه يمارس سلطة دكتاتورية في المركز، وأنه لم يعط فرصة لتكوين صف ثان وصف ثالث من الخبرات الإدارية والطبية لتحل محله حين يتوقف عن العمل، وقد يكون بعض ذلك صحيحيا، ولكن ظروف العمل كانت تحتاج فعلا لتدخلات الدكتور غنيم لأنه كان يحلم بشيء ربما لا يدركه ولا يعرفه رفاقه وتلاميذه من حوله، فقد درس في أوروبا وكندا وأمريكا لسنوات، وتكون في رأسه حلم طموح جدا يريد أن يحققه في ظروف مصرية غاية في الصعوبة من البروقراطية الحكومية وحالة الإسترخاء واللامبالاة والكسل والإهمال لدى العاملين في القطاعات الحكومية، والرغبة في التكسب من الطب لدى الأطباء، أو حتى أن يعيشوا حياة كريمة بعد أن درسوا سنوات طويلة في الجامعة ويريدون أن يحصلوا على ما يريدون ويستحقون.
كان غنيم يسير ضد التيار، ويعزف منظومة مختلفة تماما عما يدور من حوله، وقد بدأ هذا التميز حين كان يعمل في قسم 4 بمستشفى المنصورة الجامعي، وأصبح هذا القسم مختلف تماما عن بقية أقسام المستشفى من ناحية النظافة والنظام والانضباط والتميز الشديد في العمل العلمي والطبي وحتى في معاملة المرضى، فالمريض في قسم 4 لا يحتاج لأن يشتري أي شيء للمساهمة في علاجه بل يقدم له كل شيء بالمجان، ويحظى برعاية طبية وإنسانية لا يتصورها أحد حتى في أكثر دول العالم تقدما، وكان الدكتور غنيم نفسه قدوة لتلاميذه في احترام المريض لأقصى درجة، حتى أنه كان يزور بعض المرضى في بيوتهم بعد خروجهم، وكان يصحب بعضهم إلى محطة القطار ويقطع له تذكرة القطار ويمضي معه حتى يجلسه على كرسيه في القطار في رحلة عودته لبلده بعد شفائه، إنها فعلا رعاية لاتدور بخيال أحد، ولذلك كان الدكتور غنيم يتدخل في كل التفاصيل لأنه يصنع نموذجا متفردا وغريبا على السياق العام.
ومما يحكى عنه أنه كان يترك مكتبه أو غرفة العمليات ويلبس جوربا أبيض اللون ويجري في ردهات وغرفات المركز ليرى: هل تغير اللون الأبيض للجورب، وهذا بالنسبة له مقياس لنظافة المكان. ونظافة مركز الكلى والمسالك بالمنصورة تفوق نظافة أي فندق 7 نجوم في أي مكان في العالم، وخصوصا في دورات المياه التي تعكس المستوى الحقيقي للنظافة في أي مكان.
وربما يسأل سائل: من أين أتى الدكتور غنيم بالمال لكي ينشئ هذا المركز المتميز ويديره بهذه الطريقة وينفق على الأجهزة المتقدمة وعلى مرتبات العاملين والأطباء رغم تدني الميزانيات الحكومية للمستشفيات وتدني المرتبات؟ .. والإجابة أن غنيم ليس فقط عبقرية طبية ظهرت في تفرده كجراح للمسالك البولية وكرائد لزراعة الكلى في الشرق الأوسط، ولكن لديه أيضا عبقرية إدارية فذة استطاع من خلالها أن يكون فريقا متميزا يعمل معه في قسم 4 بالمستشفى الجامعي، ثم سعى ليحصل على منحة هولندية لإنشاء مركز للمسالك في حديقة شجرة الدر الملاصقة لكلية الطب، ثم أقنع أثرياء المنصورة وأثرياء مصر بالتبرع للمركز، وحين ذاع صيته في العالم العربي والعالم كله توالت التبرعات من ملوك ورؤساء وأمراء بما يمكن المركز من الاستمرار حتى اليوم والمحافظة على مستوى عال جدا من الخدمة الطبية.
وكانت التبرعات تأتي لهذا المركز بالذات رغم أنه لا يقوم بأي إعلانات للتبرعات في وسائل الإعلام كما فعلت (وتفعل) مستشفيات كثيرة في مصر، والسبب في ذلك هو ثقة الناس في الدكتور غنيم وفي إدارة المركز، ومعرفتهم لتجرده وذهده في مكاسب الحياة أو التكسب من الطب. وقد استطاع الدكتور غنيم أن يجعل المركز ذات طبيعة خاصة من الناحية القانونية والتنظيمية حتى يستطيع إدارته بعيدا عن عقبات الروتين في حال بقائه كجزء من مستشفيات الجامعة، وحارب كثيرا بعد ذلك ليمنع محاولات جعل المركز ضمن منشآت مستشفيات الجامعة وتحت إدارة مدير عام المستشفيات أو حتى رئيس الجامعة، لأن ذلك لو حدث فسوف يعوق حركة المركز السريعة والطموحة نحو التميز والارتقاء.
وعلى الرغم من بلوغه سن الرابعة والثمانين من عمره إلا أنه مازال يحضر بانتظام إلى المركز وحتى يوم الجمعة الذي يعتبر إجازة أسبوعية (ويحضر أيضا عدد من الأساتذة : الدكتور محمد صبح، والدكتور محمود بازيد والدكتور بدير والدكتور عامر وغيرهم بما يعكس حالة من الانتماء والحب تجعلهم يأتون يوم الأجازة إلى مكان العمل)، وتجده يسير في طرقات المركز فإذا وجد شيئا في نظافة المكان أو نظامه يقف فورا حتى يزيل الخطأ الواقع أو المخالفة، ولا يتحرك إلا إذا أصبح الأمر كما يجب أن يكون في هذا المكان.
وقد حدث أن زوج أخته أصيب بمرض في الكلى، وأخذ دوره كأي مواطن مصري، وأجريت له عملية بالمركز، وفي أحد الليالي حضرت أخته من القاهرة لزيارة زوجها الذي يرقد في سريره بالمركز الذي يترأسه أخوها، وفعلا عرّفت نفسها للواقفين على البوابة فسمحوا لها بالدخول، ووصلت إلى غرفة زوجها وزارته وانصرفت بعد وقت قصير. وقد علم الدكتور غنيم بما حدث، فقدم كل موظفي الأمن والعاملين الذين سمحوا لأخته بالدخول في غير مواعيد الزيارة للتحقيق وتم توقيع جزاءات شديدة عليهم. ويحكي العاملون في المركز أنهم يفاجأون بأحد أبناء الدكتور غنيم في أحد عيادات المركز أو في غرفة الأشعة وقد حضروا في دورهم لعمل فحوصات أو كشف كأي مواطن مصري دون أي توصية أو امتياز بسبب كونهم أبناء مؤسس هذا المركز.
والقصص كثيرة ومتعددة تعكس عدالة هذا الرجل ونزاهته وحرصه على الالتزام بأقصى درجات النزاهة والمساواة بين الناس في الحصول على الخدمة الطبية.
سيبقى الدكتور غنيم أيقونة الطب والعلم والإنسانية ورمزا لتحدي الصعاب وصناعة الأمل.
واقرأ أيضاً:
أمخاخ متعددة / ظلام اليأس