مفهوم التفارق ليس بمفهوم حديث كما يتصور الكثير، وهو أصلاً شديد الارتباط بمفهوم الهستيريا القديم، ولكن المصطلح تم حذفه من أدبيات الطب النفساني والعلوم النفسانية. يعود تاريخ المصطلح إلى عصر الإغريق القدامى واصفاً أنثى غير متزوجة تشكو من أعراض متعددة منها ضيق التنفس وآلام في الصدر والأطراف، صعوبة في البلع Globus Hystericus ، نوبات إغماء، ونوبات تشنجية تشبه الصرع. كان توصية الإغريق القدامى تزويج الأنثى والإنجاب وهذه التوصية لا تزال موجودة في بعض الثقافات حتى يومنا هذا. أشار العالم دوفر Dover في عام 1733 إلى تناقض استعمال مصطلح الهستيريا حصراً على النساء رغم أن أعراضه لا تختلف عن اضطراب آخر هو المراق وهو ما كان يتم استعماله على الرجال المصابين بأعراض مشابهة 1.
تم استحداث مفهوم العصاب Neurosis وفصله عن مصطلح الذهان Psychosis وشاع استعمال مصطلح الهستيريا مع هيمنة المدرسة التحليلية على العلوم الطبنفسية والنفسانية، ويمكن ملاحظة استعماله مع إضافته لمصطلحات عدة مثل عصاب هستيري، سايكوباث هستيري، تشنجات هستيرية، وشخصية هستيرية. لم يكن استعمال المصطلح حصراً على الطب النفساني وإنما في جميع الاختصاصات الطبية. يمكن القول بأن بداية النهاية لاستعمال مصطلح الهستريا كان بعد محاضرة ألقاها استشاري الأمراض العصبية النفسية اليوت سليتر2 عام 1965 حين أشار قائلاً: لا يوجد دليل طبي يشير إلى أن هؤلاء المرضى الذين تم تشخيصهم بالهستيريا سوى الاختيار العشوائي لهذا التشخيص. ما يشترك به هؤلاء المرضى هو أنهم مرضى وداء الرحم المتجول خرافة لا تزال على قيد الحياة. هذه المعتقدات خالية من المصداقية وخطيرة. تشخيص الهستيريا علامة الجهل ومصدر خصب للأخطاء السريرية… وهو ليس وهاماً فحسب وانما فخاً يقع فيه الطبيب. كذلك أشار سليتر الى الذكور من الأطباء واسرافهم في تشخيص الهستيريا في النساء لعدم تعاطفهم واستيعابهم لتفكير الأنثى. اختفى استعمال مفهوم الهستيريا تدريجياً وشاع استعمال مفهوم التفارق Dissociation ومفهوم التحويل Conversion في العلوم الطبنفسية والنفسانية. هذه الأيام ومع صدور الطبعة الحادية العشر هناك فقط مفهوم التفارق والاضطرابات التفارقية Dissociative Disorders. يتم الإشارة الى الاضطرابات التفارقية في الطب العصبي كاضطرابات عصبية وظيفية Functional Neurological Disorder FND.
التفارق
هو عملية دفاعية غير واعية للأنا Ego Defence Mechanism ومن خلال هذه العملية تولد أعراض طبية أو نفسية، وكذلك في نفس الوقت يؤدي استعمال هذه العملية إلى رسم صفات شخصية 3. لا يستغني أي إنسان عن استعمال عمليات الأنا الدفاعية وهي أحياناً أشبه بمقياس للصحة النفسانية للفرد.
يتم تقسيم الدفاعات النفسانية للأنا إلى ناضجة، عصابية، غير ناضجة وذهانية. هذا الفصل بين هذه المجموعات الأربعة يساعد أحياناً على استيعاب سلوك الإنسان وملاحظة استعماله لأكثر من دفاع نفساني من نفس المجموعة. التفارق هو من الدفاعات البدائية 4 التي تضم الدفاعات غير الناضجة والذهانية وتشمل الانشطار Splitting، التعريف الإسقاطي Projective Identification، الإسقاط Projection، إنكار Denial، أضفاء المثالية Idealisation ، الفعل الزللي Acting Out، الجسدنة Somatisation، التقهقر Regression، والتخيل الفصامني Schizoid Fantasy. تعريف التفارق نفسانياً يقترب من تعريف الانشطار نوعاً ما حيث يتم تعريف الأخير بتجزئة تجارب الذات والآخرين إلى درجة تمنع التكامل ومن جراء ذلك حين يتم مواجهة الإنسان بالتناقضات في السلوك والتفكير والوجدان تراه ينكر ذلك أو لا يبالي بها3. وظيفة الانشطار هي منع التأزم الناتج من عدم توافق جانبين مستقطبين للذات والآخرين. أما التفارق فهو تعطيل إحساس الإنسان باستمرارية الهوية، الوعي، الذاكرة أو إدراك نفسه أو محيطه من أجل الاحتفاظ بوهم سيطرته النفسية في مواجهة عجزه وفقدانه السيطرة. في الحالات القصوى يحدث تغيير في ذاكرة الأحداث من جراء انفصال الذات عن الحدث سواء كان الأخير حقيقة أو خيال ،ومن جراء ذلك نرى استعمال التفارق شديد الارتباط باضطرابات التفارق، التعامل مع الصدمات وظهور أعراض طبية يصعب تفسيرها. آما الانشطار فهو غالباً ما يصاحب سمات الشخصية الحدية، اضطراب الشخصية الحدية والتعامل مع الصدمات كذلك.
التفارق ليس الكبت Repression الذي يشكل بؤرة التعامل مع الأزمات النفسية في الطب النفساني الديناميكي حيث يتم تقسيم العقل إلى منطقة وعي ومنطقة لا وعي 5. هذا الفصل هو أشبه بفصل أفقي وما يتم إرساله من ذكريات وصدمات في حيز لا وعي لا يمكن التغلغل فيه وإدراكه رغم تأثيره على سلوكيات الإنسان وحالته الوجدانية. أما التفارق فهو الآخر يرسل الصدمات إلى منطقة لا إدراك بصورة عمودية وفي حيز وعي الإنسان ويتم تجاهلها. هذا الفصل بين الوعي أو لا وعي في غاية الأهمية في الممارسة المهنية والقانونية كذلك لأن الإنسان الذي يعاني من التفارق لا يخلو من القدرة على استيعاب ذكرياته وتأثيرها عليه وبالتالي سلوكه. على ضوء ذلك من الصعب القول بأن التفارق كعملية نفسانية تسلب الإنسان من السيطرة على سلوكه وتجريده من المسؤولية ، فقد يكون التفارق محركاً لسلوكه، ولكن لا يمكن تبرير السلوك بأنه نتاج عملية خارج وعي الإنسان.
مصادر
1- Mullan J. Hypochondria and hysteria: sensibility and physicians. The Eighteenth Century Vol. 25, No. 2, A Special Issue on British Approaches to Eighteenth-Century Studies (Spring 1984), pp. 141-174 (34 pages). Published By: University of Pennsylvania Press.
2- Slater ET. Diagnosis of ‘hysteria’. BMJ 1965: 1395-9.
3- Bowins B. Psychological defense mechanism: A new perspective. The American Journal of Psychoanalysis, Vol. 64, No. 1, March 2004.
4- Groh L. Primitive defenses: cognitive aspects and therapeutic handling. Int J Psychoanal Psychotherp 1980; 8: 661-683.
5- Mucci C. Dissociation vs Repression: A New Neuropsychoanalytic Model for Psychopathology. The American Journal of Psychoanalysis 2021; 81: 82-111
ويتبع>>>>>: الاضطرابات التفارقية: رحلة من القرن 18 إلى القرن 21-ج2
واقرأ أيضاً:
الاستشارة الطبنفسية (الطبنفسانية) / الفصام واضطرابات ذهانية أولية11