الاضطرابات التفارقية: رحلة من القرن 18 إلى القرن 21-ج1
الاضطرابات التفارقية
حقل الاضطرابات التفارقية في التصنيف العالمي الجديد الطبعة الحادية عشر1 International Classification of Diseases 11 ICD-11 يختلف عن الطبعات السابقة ويعرف الاضطرابات التفارقية بأنها انقطاع أو عدم استمرارية لا إرادية في التكامل الطبيعي لواحد أو أكثر من فعاليات الإنسان وهي الهوية، الأحاسيس، الإدراك، الوجدان، الأفكار، الذكريات، التحكم في حركات الجسم، والسلوك. هذا التقاطع قد يكون كاملاً، وغالباً ما يكون جزئياً، وقد يختلف في شدته من يوم إلى آخر، بل ومن ساعة إلى أخرى. لا يمكن تفسير الأعراض بسبب تعاطي مواد كيمائية أو انسحابها من الجسم، ولا يمكن تفسير الاضطراب بسبب اضطراب عقلي،سلوكي، عصبي نمائي، اضطراب نوم-استيقاظ، مرض في الجهاز العصبي، أو أي اضطراب طبي آخر. كذلك يجب أن لا تكون الأعراض مشابهة لممارسة ثقافية أو دينية أو روحية مقبولة اجتماعياً. هذه الأعراض لابد من أن تكون شديدة لكي تعيق الإنسان في حياته الشخصية، العائلية، وأدائه الاجتماعي، أو الثقافي٫ أو المهني، أو أي مجال آخر.
بعد ذلك يتم تصنيف الاضطرابات التفارقية إلى ما يلي:
-
اضطراب الأعراض العصبية التفارقي
-
فقدان الذاكرة التفارقي
-
اضطراب الغيبة Trance Disorder
-
اضطراب الغيبة الاستحوازي Possession Trance Disorder
-
اضطراب الهوية التفارقي
-
اضطراب الهوية التفارقي الجزئي
-
اضطراب اختلال الانية -اختلال الواقع
-
اضطرابات أخرى معرفة
-
اضطرابات أخرى غير معرفة
اضطراب الاعراض العصبية التفارقي يشير إلى أعراض تغير الإحساس، أو الحركة أو الفعالية المعرفية ناتج عن عدم تكامل لا إرادي في الوظائف الحسية، الحركية، أو المعرفية. هذه الأعراض قد تكون: بصرية، سمعية (هلاوس)، دوار، إزعاج حسي آخر، نوبات لا صرعية، الكلام، الشلل، المشية، معرفي، وغير ذلك.
اضطراب فقدان الذاكرة التفارقي يشير إلى عدم القدرة على استرجاع ذكريات السيرة الذاتية المهمة غالباً لأحداث مجهدة أو مؤلمة مؤخراً، والتي لا تتوافق مع النسيان الطبيعي.
اضطراب الغيبة يتميز بحالات تغير ملحوظ في وعي الفرد مع فقدان شعوره بهويته الشخصية يختبر فيها حيزاً ضيقاً من وعيه للمحيط الذي هو فيه والتركيز الانتقائي الغير طبيعي على محفزات بيئية مع تقييد الحركات، المواقف، والكلام مع تكرار سلوكي يبدو لأول وهلة بأنه خارج عن سيطرة الفرد. أما في اضطراب الغيبة الاستحوازي فيكون شعور الإنسان تملكه من قبل كائن آخر لا يشاهده لا هو ولا غيره ويسيطر عليه. حالات الغيبة يجب أن تكون متكررة وإن كانت هناك نوبة واحدة فهذه النوبة يجب أن تكون مدتها عدة ساعات. حالة الغيبة يجب أن لا تكون مطابقة لتجارب ثقافية أو دينية، ويجب كذلك أن تكون غير مرغوب فيها من قبل الإنسان لكي يتم تشخيصها.
يُعرف اضطراب الهوية التفارقي بوجود شخصيتين أو أكثر لا علاقة بين واحدة وأخرى، ولكل شخصية نمطها الخاص من تجارب، وإدراك، واستيعاب، وارتباط بالذات، والجسد، والبيئة. هذا التغير في الشخصية يصاحبه تغيرات حسية، إدراكية، وجدانية، معرفية، السيطرة الحركية، والسلوك. يصاحب الاضطراب فقدان ذاكرة يتميز بشدته. أما اضطراب الشخصية التفارقي الجزئي فيتميز بوجود شخصيتين أحدهما مهيمنة يتخللها بين الحين والآخر شخصية أخرى متغلغلة. الشخصيات المتغلغلة تتناقض مع الشخصية المهيمنة وغير مرغوب فيها، وكذلك لا تسيطر على وظائف الإنسان الإدارية في الحياة اليومية.
يتميز اضطراب اختلال الإنية-اختلال الواقع بتجارب مستمرة ومتكررة يشعر من خلالها الإنسان باختلال إنية يتم وصفه بغرابة ذاته وكأنها غير حقيقية وينفصل عن واقعه وكأنه يشاهد ذاته ومشاعره وأفعاله وجسده من الخارج. أما اختلال الواقع فيتميز بشعور الإنسان بكل من هو خارجه، أو محيط بيئته، بغرابته كأنه خالياً من الحياة والألوان. في كلا الحالتين يدرك الإنسان واقعه ولا يفقد السيطرة.
هذا التصنيف أكثر تفصيلاً من سابقه ويجمع جميع الاضطرابات النفسية التي تتميز باستعمال الدفاع النفسي التفارقي. يحتوي المجلد الخامس الإحصائي التشخيصي الخامس لجمعية الطب النفسي الأمريكية2 Diagnostic and Statistical Classification DSM V على ثلاث اضطرابات تفارقية رئيسية وهو اضطراب الهوية التفارقي، فقدان الذاكرة التفارقي، واختلال الإنيه -اختلال الواقع في حين يتم حصر الاضطرابات الأخرى في مجموعات غير الاضطرابات التفارقية رغم أن العملية التفارقية هي السائدة.
يمكن استيعاب الاضطرابات التفارقية على أنها مجموعة تتميز باختلال تواصل الإنسان مع محيطه، مشاعره وتفكيره. في نفس الوقت هذا الاختلال في التواصل لا يصل إلى عتبة فقدان الإنسان الكامل لبصيرته. العملية التفارقية لا تقتصر فقط على المصابين بالاضطرابات التفارقية وإنما قد يشعر بها الكثير من الذين لا يصلون مراكز الطب النفساني، ولكي يتم تشخيص الاضطراب لابد للعملية التفارقية أن تؤثر بصورة سلبية على أداء الفرد العاطفي، أو الاجتماعي، أو المهني.
التفارق بين الخيال والصدمات
هناك جدال مستمر لم يتم حسمه إلى يومنا هذا عن أسباب التفارق والاضطرابات التفارقية 3. هذا الجدال يدور بين قطبين هو قطب الصدمات الذي يفسر مصدر التفارق بوجود تاريخ سابق للصدمات سواء في الطفولة او بعد البلوغ وقطب اخر يفسر ظاهرة التفارق بسبب خيال الانسان واستحداثه لذكريات مزيفة. الخوض في هذا الجدال يتطلب أولا التمعن في دراسة تاريخ المفهوم والدراسات الميدانية السريرية.
التفارق لا يختلف عن مفهوم الهستريا القديم التي توقف استعماله. درس الطبيب الفرنسي شاركوت Charcot المرضى المصابين بأعراض عصبية4 لا يمكن تفسيرها في مستشفى سالبيتريير في باريس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان استنتاجه الأولي بأن الهستيريا سببها اضطراب في الجملة العصبية، ولكنه غير رأيه بعد ذلك واستنتج بأن أعراض الهستيريا مصدرها نفساني بسبب صدمات سابقة. بعد ذلك جاء دور الأستاذ جوزيف بابنسكي الذي شغل مقعد شاركوت في المستشفى ذاتها واستنتج بأن الميزة الأساسية للهستيريا هي القابلية للاستجابة إلى التنويم المغناطيسي، ومن جراء ذلك يتم تفسير الأعراض عن طريق ما يقترحه المعالج وإقناعه لمراجعه. بعد ذلك جاء دور بيير جانيت في المستشفى نفسه الذي صاغ ظاهرة الهستيريا بأنها نتاج صدمات نفسية . هذا الجدال الذي يعود تاريخه إلى ما يقارب مئة عام لم يتغير إلى يومنا هذا حيث يوجد نموذجان لتفسير ظاهرة التفارق وهما:
1- نموذج الصدمة Trauma Model TM
2- نموذج اجتماعي معرفي Socio-Cognitive Model SCM والذي قد يتم الإشارة إليه أحياناً بنموذج الخيال Fantasy Model FM.
بعد ذلك جاء دور المدرسة النفسانية التحليلية، وكان مؤسسها سيغموند فرويد متأثراً بنظرية شاركوت وجانيه، ولكنه رفض فكرة صدمات الطفولة كسبب الهستيريا وفسر بأن مصدرها هي ذكريات عقدة أوديب تم كبتها أي بعبارة أخرى خيالات أوديب طفولية. لذلك نرى بأن المدرسة التحليلية إلى الآن لا تميل إلى نموذج الصدمة في تفسير التفارق.
المصادر:
1- International Classification of Diseases 11(2022). World Health Organisation.
2- Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders- Fifth Edition 2013. American psychiatric Association.
3- Lowenstein R. Dissociation debates: everything you know is wrong Dialogues Clin Neurosci. 2018 Sep; 20(3): 229–242.
4- Mucci C. Dissociation vs Repression: A New Neuropsychoanalytic Model for Psychopathology. The American Journal of Psychoanalysis 2021; 81: 82-111
ويتبع>>>>: الاضطرابات التفارقية: رحلة من القرن 18 إلى القرن 21-ج3
واقرأ أيضاً:
العلاج النفسي لاضطراب الشخصية الحدية / الاستشارة الطبنفسية (الطبنفسانية)