نتناول هذا الموضوع الهام والحسّاس بمناسبة الاحتفال باليتيم والذي يأتي كل عام في الجمعة الأولى من شهر أبريل، وقد بدأت فكرة الاحتفال بيوم اليتيم عام 2003، باقتراح أحد المتطوعين بأحد الجمعيات الخيرية، التي تعد أكبر الجمعيات العاملة في مجال رعاية الأيتام في مصر، بأن تنظم حفلًا كبيرًا لعدد من الأطفال الأيتام التابعين لها أو لمؤسسات أخرى للترفيه عنهم.
وفي عام 2006، حصلت أحد الجمعيات الخيرية على قرار رسمي بإقامة يوم عربي لليتيم من مجلس وزراء الشئون الاجتماعية العرب في دورته الـ26، وبذلك تقرر تخصيص يوم له في الدول العربية والاحتفال به، وانتقلت الفكرة من النطاق المصري إلى العربي والعالمي، فأصبحت أول جمعة من شهر أبريل، يومًا مخصصًا للاحتفال بالأطفال اليتامى في كل أنحاء العالم (حنان الصاوي، 2022، أخبار اليوم). وعلى المستوى العالمي يتم الاحتفال بيوم اليتيم يوم 14 نوفمبر من كل عام.
وفي عام 2010، دخلت الجمعية الخيرية موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية، عندما تجمع حوالي 5 آلاف طفلا يتيما رافعين الأعلام المصرية لجذب الانتباه إليهم، والالتفات إلى احتياجاتهم في منطقة سفح الهرم بمحافظة الجيزة، واختلفت الآراء حول هذا الحدث بين مؤيد له واعتباره إنجازا مصريا لفت أنظار العالم ورافض له على اعتبار أنه سوء استغلال للأطفال الأيتام، وحدث ترويجي بهدف مكاسب دعائية.
ولكي يكون كلامنا مرتكز على العلم سنحاول الاستفادة من عدد كبير من الدراسات والأبحاث العالمية والعربية في مجال سيكولوجية الأطفال اليتامى وخاصة أولئك الذين ينشأون في دور رعاية الأيتام مقارنة بمن ينشأون في كنف أسرة، ونود أن ننبه القارئ لبحث مهم نشرته الدكتورة عائشة محمد الكحلاوي في المجلة العربية للعلوم ونشر البحث بتاريخ 2018، وتناولت فيه عدد كبير من الدراسات حول سيكولوجية الأطفال الذين ينشأون في دور رعاية الأيتام. وطبقا لإحصاءات اليونيسيف فإن هناك ثمانية ملايين طفل يقيمون في دور الرعاية على مستوى العالم.
من الناحية الشرعية واللغوية يطلق لفظ الطفل اليتيم على من فقد أباه في سن الطفولة قبل أن يبلغ الطفل سن البلوغ أو الرشد، ولكن من الناحية الاجتماعية يطلق الناس لفظ اليتيم على من فقد أباه أو أمه في سن الطفولة فيقال يتيم الأب أو يتيم الأم وكلاهما يحتاج للرعاية. والسؤال هو أين تكون تلك الرعاية؟.. في كنف أسرة، أو عائلة ممتدة، أم في دار رعاية أيتام؟.
أجريت دراسات عديدة للمقارنة بين الأطفال الذين ينشأون في كنف أسرهم والأطفال الذين ينشأون في دور الرعاية، ووجد أن الأطفال الذين ينشأون في دور الرعاية تحدث لديهم مشكلات في نموهم الجسماني والنفسي والاجتماعي والروحي، ويعزى السبب في ذلك للظروف المحيطة بالتنشئة في دور الرعاية، حتى ولو كانت دار الرعاية تحت إشراف أهلي أو حكومي متميز.
وبناءا على هذه النتائج هل ننادي بإلغاء أو تحجيم دور الرعاية؟.. بالطبع لا، والسبب أن دور الرعاية هي بمثابة ملاذ لطفل فقد والده أو والديه، ولم يتطوع أحد من عائلته أو من المجتمع لكفالته، أو أنه ولد ولا يعرف من أبويه، وعثر عليه الناس أمام جامع أو كنيسة، أو طفل مقيم في الشارع هربا من جحيم أسرة كانت أقسى عليه من ظروف الشوارع، أو كان الوالدين مهملين أو عاجزين عن رعايته ... هنا تصبح دار الرعاية – حتى بكل عيوبها أو الانتقادات الموجهة إليها – ملاذ آمن للطفل تقدم له المأوى والأمان والطعام والملبس والفرصة للتعليم، أو بمعنى آخر تحميه من الاستغلال في الشارع في أعمال التسول أو الجريمة أو المتاجرة به، وتمنحه الاحتياجات الأساسية للحياة.
والدراسات العلمية المحلية والعالمية وجهت الأنظار لمشكلات الإقامة والعيش في دور الرعاية ونذكر منها:
• حرمان الطفل من الجو الأسري الدافئ والحنون والذي يعطيه الرعاية كشخص محدد له كينونته المتفردة وله هويته الخاصة تحت مظلة أبوين (أو من يحل محلهما من العائلة الأكبر). فالطفل في دار الرعاية أشبه برقم، أو جزء من كل لا يتمتع بخصوصية محددة في الرعاية.
• سوء الإدارة من بعض الدور والذي يؤدي إلى سوء الرعاية فيتعرض الطفل لإساءات جسدية أو جنسية إما من بعض المشرفين عليه، أو من بعض زملائه في الدار، مما يترك آثارا نفسية عميقة وجارحة تلاحقه مدى حياته.
• المتاجرة بهؤلاء الأطفال بواسطة بعض الجمعيات التي تستدر عطف الناس بعرضهم في صورة تستجلب الشفقة والأسى لكي تحفز الناس على التبرعات السخية للدار، وقد يكون جمع التبرعات والحصول على المنح هو الهدف الأساسي للقائمين على الدار.
• أجواء دور الرعاية – في غالبيتها – لا تشبع الاحتياجات النفسية بشكل طبيعي فينشأ الطفل ولديه الحرمان النفسي الذي يؤدي إلى حالة من الاكتئاب تتبدى في اضطرابات سلوكية كالعنف، أو الانحرافات السلوكية والجنسية.
• وفي حالة تخصيص أحد المتطوعين أو المتطوعات من خارج الدار (من أهل الخير) لرعاية أطفال بعينهم من خلال زيارات أسبوعية أو شهرية لهم، فإن الطفل يستشعر اهتماما خاصا به في بعض الأيام، ولكنه يعاني حرمانا متكررا للشخص الذي أحبه وتعلق به.
• حين يزور أهل الخير من خارج الدار الأطفال اليتامى ويحملوا لهم الطعام والهدايا ليمنحوهم السعادة في بعض المناسبات بشكل مبالغ فيه، فإن الأطفال يتعودون على سلوك التسول المادي والعاطفي من غرباء يزورونهم في مناسبات متقطعة.. ويلاحظ هذا من خلال اندفاع الأطفال بشكل جماعي نحو الزائرين الغرباء وتمسحهم فيهم واستجداء الهدايا أو التعاطف.
• الوصمة التي تلحق بمن تربوا داخل دور الرعاية، والتفرقة في المعاملة بناءا على نظرة عنصرية من كثير من أفراد المجتمع تجاه خريجي دور الرعاية مما يؤثر على فرصهم في العمل أو الزواج، ويعطيهم إحساس بالنقص والاختلاف.
إذن ماهو الحل؟
الحل هو أن تستمر دور الرعاية في تقديم خدماتها لمن لا يجدون تلك الرعاية من الأسر أو العائلات الممتدة أو المجتمع ككل، على أن لا نعتبر أنها مكان للإقامة الدائمة وأنها الحل النهائي، ولكن باعتبارها حل مؤقت لحالات طارئة يتم استبدالها في أقرب فرصة بتوفير الرعاية في كنف أسرة ويفضل أن تكون ذات قرابة للطفل حتى لا يشعر بالغربة، وحتى تمنحه هذه الأسرة القريبة هوية متميزة، وتمحو عنه وصمة النشأة في دار الرعاية.
وفي ثقافتنا العربية نصوص دينية كثيرة تحث على رعاية اليتامى وتعد بالجزاء العظيم في الدنيا والآخرة لمن يكفل اليتيم ويرعاه ويحسن إليه ويحافظ على ماله إن كان له مال حتى يكبر، وهذا يشكل دافعا قويا – إذا استثمرناه – لدى الناس لانتشال أكبر عدد من الأطفال من دور الرعاية، لكي نهئ لهم ظروفا أفضل للحياة. يضاف إلى ذلك نسبة غير قليلة من الأزواج حرموا نعمة الإنجاب، وبدلا من أن يعيشوا حالة حرمان مؤلمة تؤثر في صحتهم النفسية وفي جودة حياتهم، فإن من الواجب تشجيعهم على كفالة طفل أو طفلة يمنحانهما مشاعر الأبوة والأمومة، وهي مشاعر فطرية مهمة جدا للرجل والمرأة.
وتقوم بعض الجمعيات الخيرية والمؤسسات الحكومية بإعطاء منح مادية شهرية للأسرة التي تكفل طفلا، وهذا يشجع مزيد من الأسر لكفالة عدد أكبر من الأطفال.
وعلى علماء الدين أن يوضحوا للناس الفرق بين كفالة طفل – وهو أمر محمود في الدين – وبين تبني طفل وهو أمر منهي عنه في الدين، لأن هناك لبس بين الأمرين يجعل الناس عازفين أو متوجسين من موضوع الكفالة لاعتبارات دينية.
واقرأ أيضاً:
الزوجة الزنانة / الدعم النفسي للأشخاص في زمن الأوبئة والحروب3