هذه خاطرة خاطفة في تاريخ العلم، ولها علائق من وجوه عديدة بنظرية المعرفة (الإبستمولوجيا). هي سانحة من السوانح الذهنية التلقائية التي ترقرقت على ذهني، فطفقتُ أسحبها برفق إليكم، وأضعها كما عبرت في ذهني دون تزويق أو تمليح زائد. ويمكن أن ننسج على منوالها العديد من التطبيقات والأمثلة، فالمثال الوارد هو مجرد مثال لا أكثر، وقد نشتق من ذلك وهو الأهم: مبادئ أو قواعد كلية في بناء المعرفة واستعادة التحضّر على أسس من العلم والقيم والإيمان متينة. ولعلي أنظم عقد هذا النص بخرزات أربع صغيرة متوالية:
(1)
في الرؤية الكلية للمسلم استقرتْ حقيقةُ أن علم البشر نسبي، وعلم الله وحده هو المطلق، وذلك لما ورد في القرآن الكريم، حيث جرى مبدأ «نسبية علم الإنسان ومطلقية علم الإله»، ومبدأ «حتمية جهل الإنسان من حيث المبتدأ والمنتهي»، ولعل من أوضحها هذه الآيات التي تأتي بسردية عجيبة:
1 - تقرير الجهل الأصلي الأولي وتزويد الإنسان بأدوات التعلم:
{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78)، {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (القلم: 4-5).
2 - السعي لزيادة العلم ورفع الجهل ما أمكن:
{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114).
3 - إعادة تأكيد أصالة الجهل وحتميته:
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72).
4 - إعادة تأكيد نسبية العلم البشري:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85).
(2)
ولئن استقرتْ حقيقةُ أن علم البشر نسبي لا محالة، فإنه قد خطرتْ في بالي هذه النتيجةُ التي جاءت محصلة منطقية فيما أحسب، حيث خلصتُ إلى الآتي:
كان من المفترض أن يصل لمبرهنة كورت جودل (1906- 1978) عقلٌ مسلمٌ، وهي المبرهنة التي أبهر بها الطالبُ العبقريُ جودلُ ذو الخمسة والعشرين ربيعًا أستاذَه اللامعَ ديفيد هلبرت (1862- 1943)، الذي يعد دون منازع أحد كبار علماء الرياضيات في القرن العشرين، وهو الذي كان يؤمن بأن علم الرياضيات يمكن أن يصل إلى الحقيقة المطلقة، والاكتمال التام؛ وفق نسق منطقي داخلي محكم. وحين عجز عن إثبات هذه الفرضية وأعيته أيما إعياء، عهِد لتلميذه بهذه المهمة العسرة النكدة، وصُعِق أن التلميذ العبقري يُبرهن في ثلاث صفحات فقط أن الرياضيات «علم نسبي»، وذلك في عام 1931، وأنه لا يمكن أن يصل هذا العلمُ إطلاقًا إلى اليقين التام، وهي مبرهنة عدم الاكتمال وعدم البتّ، فقد برهن جودل على أن ثمة حقائق رياضية غير مبرهنة أو لا يمكن برهنتها البتة، وأن ثمة أخطاء رياضية مبرهنة، فإما عدم الاكتمال التام أو عدم البرهنة التامة، ولا يمكن الجمع بين اكتمال تام وبرهنة تامة، وهي النسبية في علم الإنسان، فلا اكتمال طال، ولا برهنة أدرك!!
والنتيجة التي خلصتُ إليها وأومأت إليها آنفاً، وهي تمتُ بصلة إلى تاريخ العلم، هذا التاريخ المنفصل الذي نصله نحن باستنتاجاتنا، هذه النتيجة صغيرة في حروفها، كبيرة في دلالاتها وانعكاساتها، وأكملها بهذا التوصيف المكثف:
لو كنا في عافية علمية وحضارية، لكنا أولى بمثل هذا الكشف، ولا أحسبها عسيرة جداً من الناحية الرياضية البحتة على عقولنا العربية المسلمة المبدعة. ولكنها الغفلة الحضارية .. نؤمن بأننا عائدون، فنحن كالفجر ذات يوم مشرقون!
(3)
وأميل أيضاً إلى أن هذه المبرهنة التي أبدعها العبقري جودل كان يمكن أن نصل إليها قبل قرون عديدة من القرن العشرين، وهذا يدل على أن البشرية تخسر في انحطاط حضارة ملهمة متوازنة كالحضارة العربية الإسلامية، ولله في خلقه شؤون. المهم هو أن نفقه جيداً هذا الدرس ونلمُّ بأبعاده واستحقاقاته، فكم من المبرهنات غير المنجزة التي نحن بها أولى، من جراء أن لدينا مسلمات أو إشارات تفضي أو تؤشر عليها، في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة؟! من يتفحص هذه المسارب ويكتشف ما تكتنزه من مبرهنات لم تبرهن بعدُ، فخيط الحل في أيدينا؟ وعقولنا ليست ضعيفة أو لم تعد ضعيفة ولا ساذجة.
(4)
وأختم النص بتحليل نفسي اجتماعي ديني، عبر الانخراط إلى السيرة الذاتية لهذا العبقري، إذ إن جودل مصابٌ بوسواس قهري، حيث كان يظن أن الناس يأتمرون به ليقتلوه أو يسمموه، فما كان منه إلا الامتناع عن أكل أي طعام لم تصنعه له زوجته التي لا يثق بمن سواها، فلما مرضت زوجته وأدخلت المشفى، رفع يده عن الطعام تمامًا، فمات جوعًا ووزنه قرابة 30 كيلًا!
ونحن هنا نتساءل: لماذا لم يطبق هذا العبقري نظرياته في الرياضيات، ولِمَ لمْ يلُذْ هذا المكينُ بمعادلات ذكية دقيقة كان يتقنها، فقد كان يُقال أنه قادرٌ على حساب كل ما حوله أو هكذا يظن؟! أحسب أنه لا يصلح أن نرصع خاتمة هذا النص إلا بهذا الفص: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك. هذا الموت المؤسف لا يقلل البتة من شأن الإسهام المعرفي الكبير لهذا الألمعي العبقري، ولكنه موت انتحاري مرضي بائس!
نقلا عن: موقع الجزيرة
واقرأ أيضا:
صناعة الخط العربي واقتصاد المعرفة / مبادرة كبرى لتعليم اللغة العربية