الوسواس القهري: الشك وعمه الدواخل1
خلل الفاعلية الشخصية وقابلية الانخداع:
بمنتهى البساطة يستطيع المتأمل ولو من بعيد لحالة مريض وسواس قهري نموذجية أن يصفه بأنه شخص يفكر أفكارا لا يريد أن يفكرها لكنه لا يستطيع ألا يفكرها ويفعل أفعالا يتمنى أن يتوقف عن فعلها لكنه لا يستطيع ألا يفعلها.. أي أنه شخص مسلوب الإرادة بوضوح فيما يخص وسواسه، ولعل ذلك ما رآه فقهاء المسلمين خاصة في المذهب المالكي علة قهرية تستوجب الرخصة وإسقاط ما يجب على الآخرين عن المريض، وجدير بالذكر أن إيسكرول (Esquirol, 1838) وهو واحد من أوائل من وصفوا الوسواس القهري من الأطباء وصفه بأنه مرض يصيب الإرادة بمعنى أنه يسلب المريض إرادته الحرة.
ورغم أن الإرادة أعلاه تأتي بمعناها الأدبي لتصف مريضا يفكر فيما لا يريد ويفعل ما لا يريد، إلا أن من المعطيات السريرية والبحثية ما يشير إلى خلل في إدراك الفاعلية الشخصية Personal Agency المستقلة أو وكالة الفعل في مرضى الوسواس القهري، والشعور بالفاعلية الشخصية يعني قدرة الإنسان على إدراك السببية، خاصة السببية بين العقل والجسد أو بين الجسد والعالم الخارجي (Gallagher, 2000). وبشكل أكثر تحديدًا فإن الإحساس بالفاعلية الشخصية هو شعور الشخص بأنه يمكنه التسبب في أفعاله والتحكم فيها وإحداث تغييرات في العالم الخارجي من خلالها، وببساطة أكثر أستطيع أن أحرك وأتحكم في جسدي لأغير ما حولي، كذلك فإنني عندما تتحرك يدي أو لساني أشعر أنني أنا من يحرك ولا أشك في ذلك.... هنا ربما تظهر مشكلة مريض اضطراب الوسواس القهري، فكثيرا ما يصف مريض الوسواس القهري حاله مع وساوسه وقهوره بأنها تسيطر بالكامل عليه أو يصف الفكرة الوسواسية في موقف ما بأنها سيطرت عليه فاستمر يؤدي الطقس القهري رغم معرفته بخطأ ذلك أو سخافته أو لا جدواه، وكثيرا كذلك ما يختلط عليه الأمر مثلا أثناء الوسوسة في صدره (المكان الذي يضع المريض يده عليه) همسا بالكفر فمنهم يقول كأنه صوتي، أو يقول كأنني أنا الذي أقول، أي أنه يشك في قول ما لم يقله أو فعل ما لم يفعل! وفي مثال على الأفعال القهرية التي يفسرها المريض بأنها كفرية استهزائية كحركة إصبع أو توجيه باطن القدم كثيرا ما يقول بأن إصبعي تحرك لوحده أو رجلي كأن غيري حركها!
يبين ذلك أن مريض الوسواس يشك في فاعليته الشخصية ومسؤوليته المستقلة عن حركات أجزاء جسده، وفضلا عن علاقة ذلك وانتمائه كظاهرة للانفصال Dissociation، وهو شائع في بعض الموسوسين، فإن هناك ما يشير إلى علاقة الشعور بالفاعلية الشخصية بسلامة الحس الداخلي أو الإدراك الداخلي Interoception (وهو استقبال ومعالجة الإشارات الجسدية الداخلية وتكاملها وتفسيرها) والذي ثبت اختلاله في مرضى الوسواس القهري، ويقدم التفسير للدور المفترض للظواهر الحسية في مرضى الوسواس، مثل مختلف الظواهر الحسية وإل.ص.ت وحواث الفعل...إلخ، وهي الظواهر التي غيرت تفكير الأطباء النفسانيين حول كون اضطراب الوسواس القهري اضطراب تفكير بالأساس بحيث اعترف بدور المشاعر الجسدية وخلل الحس الداخلي وإن كان ذلك على المستوى البحثي وينتظر إدراجه في محكات التشخيص.
وأما قابلية الانخداع العالية فربما هي سبب ونتيجة وهناك علاقة بين قابلية الانفصال العالية والوسوسة بما يجعل الموسوس معرضا لتصديق التهمة (الوسواسية) بسهولة، مثلا أنه طعن أحدهم، لكن النقطة الأهم التي تزيد من قابلية الانخداع هي عدم القدرة على الثقة في النفي التلقائي الموجود داخله بسبب الحائل الوسواسي والشك الناتج عنه فتراه يسترجع المواقف ووجوه الحاضرين فيها وتعبيراتهم بحثا عنما يشير إلى أنه طعن أحدهم! ثم يكتشف أنه بحاجة إلى أن يسأل أحدا منهم بطريقة غير مباشرة ليتأكد أنه لم يطعن أحد!! وهكذا، والأمثلة كثيرة سواء تعلقت بفعل لم يفعله المريض أو بقول لم يقله لكنها كلها تشير إلى خلل في التواصل بين مريض الوسواس وبين الموجود بالضرورة داخله، بما يجعله يستسلم لفعل السلوك القهري.وأخيرا فإن الشك، والحائل الوسواسي والظواهر الحسية هي من أهم معززات قابلية الانخداع وتصديق الوسواس لدى المريض.
طلب بدائل للحالات الداخلية "ط.ب.ح.د SPIS"
في نفس سياق علاقة مريض الوسواس المضطربة بما يحس داخله، ومبتدئين من فكرة شابيرو (Shapiro , 1965) عن فقدان القناعة طور كل من ليبرمان ودار في جامعة تل أبيب* (Liberman & Dar , 2009) نظرية لشرح الوسواس القهري ملخصها أن ضعف القدرة على الوصول للحالات الداخلية يؤدي إلى استبدالها ببدائل خارجية أكثر مصداقية وثباتا بالنسبة للمريض وسميت النظرية "طلب بدائل للحالات الداخلية "ط.ب.ح.د SPIS" Seeking Proxies for Internal States وكانت المجموعة البحثية في منتهى النشاط ففي خلال عقد من الزمان أصبحت لدينا سلسلة من الدراسات تشير نتائجها إلى أن أداء مرضى الوسواس القهري ضعيف في المهام التي تتطلب التركيز على المشاعر أو الحالات الذاتية الداخلية، مقارنةً بالأصحاء وبغيرهم من مرضى القلق، أثبت ذلك من خلال دراسات تقارن بآخرين إدراك المريض الداخلي مثلا لدقات قلبه أو لمستوى توتر أو استرخاء عضلة معينة في جسده في ضوء ما تقرأه أجهزة القياس وبمساعدة جهاز التغذية الراجعة. (Lazarov et al., 2010) وهناك دراسات مماثلة لإدراك الوقت والإحساس بالفهم وببدء الحركة وكذلك لإدراك العواطف (Lazarov et al., 2022). كلها تثبت وجود صعوبة وضعف في قراءة الدواخل مقارنة بغيرهم من المرضى والأصحاء أي أن مشكلة مرضى الوسواس هي في الحؤول دون الشخص ودواخله المعرفية والوجدانية، كما واصل الفريق البحثي بأن افترض وأثبت أنهم كذلك أكثر عرضة لتصديق المعلومات الكاذبة عن الدواخل عبر التغذية الراجعة الخاطئة أو المضللة. (Ezratia, etal., 2019)، يفسر لنا هذا كثيرا من أعراض المرضى ولعله التفسير الأول أو الإجابة الأولى على سؤال: لماذا يسأل مريض الوسواس أسئلة هو الأعرف بردها منطقيا من المسؤول؟!! فسبب ذلك هو عدم قدرته على التيقن من المصدر التلقائي والطبيعي داخله، أي لأنه يشك في المعلومات داخله.
وأثناء واحدة من الجلسات العلاجية مع حالة وسواس قهري عبر واحد منهم عن فهمه لصعوبة حالته أثناء التفتيش في الدواخل بسبب الحائل الوسواسي مشبها ذلك بعمى الدواخل وهنا قلت له لا ليس عمى الدواخل، بل قل عمه الدواخل فهو شيء يجعلك تشك فيما ترى وليس ذلك عمى بقدر ما هو شك فيما ترى، ومن تلك الجلسة سميت السمة الوسواسية بعمه الدواخل، ولكي يتضح المقصود بعمه الدواخل فإن الإنسان الصحيح يكون على صلة بكل معلوماته الواعية وتحت الواعية عن نفسه وجسده، ويستطيع جيدا أن يدركها ويقيمها بدقة وفي أي وقت بسهولة، سواء تعلقت المعلومات بأفعاله و/أو مردود أفعاله أو أفكاره أو مشاعره، لكن هذا الأمر لا يحدث في الموسوس الذي يستشعر الشك المستمر والمتجدد في كل ما يحاول استشعاره داخل نفسه ليطمئن بلا جدوى، ويدفعه ذلك إلى محاولة الحصول على الطمأنة بطرق أخرى منها سؤال الآخرين أو استقراء الوجوه، أو البحث عن أي مصادر طمأنة من البيئة المحيطة، أو الالتزام بطريقة معينة في الفعل، أو التكرار لعدد معين بناء على حل أوسط اقترحه الوسواس مثلا خمس أو سبع مرات تكرار تكفي للطمأنة أن فعل كذا قد تم بنجاح أو بالتمام.
وكمثال على اللجوء إلى مصادر خارجية للطمأنة على محتوى داخلي، أذكر صاحب الشخصية القسرية الذي اقتنع أخيرا بخطبة الفتاة التي كان يعرف أنها تنتظره لكنها لا تحقق معاييره 100% .. ثم هو بعد أسابيع من الخطبة بعد خلاف عابر يقول لطبيبه النفساني، وبعد تلك الحادثة شككت واحترت لساعتين هل أنا أحبها أم لا؟ لكن اتضح أني أحبها بالفعل انظر هنا (ويعرض عليه صورا لشاشة محمول عليها حوارٌ إليكتروني يقول فيه أنه يحبها) فهو لا يستطيع ببساطة أن يقرأ داخله معلومة أنه يحب خطيبته، وكذلك مثلا السيدة التي تستدل على أنها تحب زوجها (وبالتالي تقرر الاستمرار من عدمه!) من كلمات الحوار المكتوبة بينها وبينه وكم مرة كتبت له أحبك على ذلك التطبيق! ثم تشرح ذلك للمعالج بلهجة من تطلب الطمأنة أن استدلالها صحيح! "أنا أكيد أحبه انظر لهذا الحوار كم قلت له أحبك؟"، فهي لا تستطيع ببساطة أن تقرأ داخلها معلومة أنها تحب زوجها وهي أكثر ثقة بالمكتوب في الحوار بينهما من ثقتها بما تستبطن داخلها.
قديما وصف المالكية مريض الوسواس القهري بأنه المستنكح بالشك (وهم يطلقون اسم المُستنكح على كل من غلبه شيءٌ وقهرَهُ) فهو (أي الموسوس) الذي يشك كثيراً ولا يوقن من نفسه شيئا يعمل بمقتضاه.... كما جاء في "الفواكه الدواني" في تعريف المُسْتَنْكَح [1/224]: (..(وهو) أي المستنكح (الذي يكثر ذلك) أي الشك (منه).. والحال أنه (لا يوقن) بشيء يبني عليه، هذا هو معنى الاستنكاح)، وجاء بنفس المعنى في [حاشية الدسوقي :1/115-116، 434] (رفيف الصباغ،2008)، ولعل هذا الفهم كان وراء الترخيص في فقه المستنكح، وقد أردت الإشارة لذلك توطئة لما يترتب فقهيا على المعطيات العلمية أعلاه، ذلك أن خللا في تواصل المريض مع دواخله أو معلوماته الداخلية ولو اقتصر على موضوع وسواسه جدير بأن يعفيه من كل ما يحتاج تواصلا لا شك فيه بين المرء ودواخله، وهذا يشمل النية والقصد والمشاعر والذكريات، فمريض الوسواس القهري حرفيا يحتار في استبطان مشاعره وكذا ذكرياته وليس غريبا أن يسأل وقد انتهى لتوه من فعل هل فعلت أم لم أفعل؟ ويكفيه أن تأتيه فكرة أنه ربما فعل، ليجد نفسه مدفوعا لمحاولة التذكر وكلما حاول كلما وجد الشك يزيد، حتى ليعجز عن التيقن من فعلت أم لم أفعل؟!
المراجع:
1- Esquirol, E. (1838). Des Maladies Mentables. Paris. France. Baillier.”Quoted from : Asberg , M. (1991)”
2- Gallagher, S. (2000). Philosophical conceptions of the self: implications for cognitive science. Trends Cogn Sci, 4(1), 14-21.
3- Asberg , M. (1991). Introduction : Obsessive Compulsive Disorder. In: Jenike , M. A. , Asberg , M (Ed) Understanding Obsessive Compulsive Disorder (pp.11-16) Toronto : Hans Huber Publishers.
4- Shapiro, D. Neurotic Styles, 7th ed.; Basic Books: New York, NY, USA, 1965.
5- Liberman, N.; Dar, R. (2009). Normal and Pathological Consequences of Encountering Difficulties in Monitoring Progress toward Goals. In The Psychology of Goals; Moskowitz, G., Grant, H., Eds.; Guilford Press: New York, NY, USA, 2009; pp. 277–303.
6- Lazarov A, Dar R, Oded Y, Liberman N (2010). Are obsessive-compulsive tendencies related to reliance on external proxies for internal states? Evidence from biofeedback-aided relaxation studies. Behavior Research and Therapy 48 (6): 516–523.
7- Lazarov A (2022). Are people with obsessive compulsive disorder under-confident in their memory and perception? A review and metanalysis. Psychological Medicine 52, 2404–2412. https://doi.org/10.1017/S0033291722001908
8- Ezratia O., Friedmanb J., & Dara R (2019). Attenuation of access to internal states in high OC individuals might increase susceptibility to false feedback: Evidence from a visuo-motor hand-reaching task. Journal of Behavior Therapy and Experimental Psychiatry 65 (2019) 101445
9- الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: أحمد بن غنيم النفراوي المالكي: دار الفكر-بيروت: 2008م.
10- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمد عرفة الدسوقي: دار الفكر-بيروت: 2005م.
11- رفيف الصباغ (2008). منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (2) مقال منشور على موقع مجانين.
* تل الربيع اسم القرية الفلسطينية المحتلة.
ويتبع>>>>>>: الوسواس القهري: الشك وعمه الدواخل3
اقرأ أيضاً:
التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب2 / لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية5