الوسواس القهري: الشك وعمه الدواخل2
نظرية عمه الدواخل
تقدم نظرية عمه الدواخل مفهوما افتراضيا هو صعوبة وصول المريض لحالاته الداخلية، وهو المفهوم الذي يكاد يفسر عددا من الظواهر العصية على الفهم والمميزة لمرضى الوسواس القهري إلى حد كبير، فهناك ما يحول بين المريض وبين الوصول السهل الواثق لمعطيات موجودة داخله، أو كأن معالج الحاسوب لا يقرأ معلومات القرص الصلب بسهولة، يمكننا أن نرجع ذلك الحؤول إلى الحائل الوسواسي المفترض أو إلى ضعف النفاذ للحالات الداخلية المفترض، أو نرجعه لعمه الدواخل غير معروف السبب فالمعنى في النهاية واحد والنتيجة واحدة هي خلل التواصل مع الدواخل، لكن رغم نجاح هذه النظرية في طرح تفسير مقبول للشك الوسواسي، ولظاهرة اللا اكتمال ولخلل الشعور بالفاعلية الشخصية وقابلية الانخداع كظواهر وسواسية إلا أنها أولا لا تفسر كل المعطيات ذات العلاقة بتلك الظواهر، وثانيا لا تقدم تصورا محددا لطبيعة ذلك الحاجز أو السبب المباشر للحؤول دون أو لضعف الوصول للحالات الداخلية.
فإذا تأملنا الشك الوسواسي فإننا نجد شك المريض فيه يقتصر على موضوع وسواسه دون غيره، هل يمكننا تفسير صعوبة الوصول للدواخل فيما يخص موضوعا دون غيره؟ خاصة في ضوء استناد نظرية ضعف التواصل مع الدواخل وطلب بدائل للحالات الداخلية إلى تقارير عن دقة تقدير دقات القلب أو مستوى التوتر العضلي في عضلة ما فهذه أحاسيس حشوية أو جسدية مباشرة يفترض حسب نتائج الدراسات حتى الآن أنها تميز ذوي الميول الوسواسية في عينة من الطلبة (غير المرضى) عن غيرهم، كما تميز مرضى الوسواس القهري عن غيرهم فهل يعني ذلك أن ضعف التواصل مع الدواخل هو صفة عامة أم خاصة؟ وهل هو حالة أم سمة موجودة بغض النظر عن الحالة؟ ثم إذا كانت هذه هي الحال مع الأحاسيس الجسدية هل هي بالضرورة كذلك مع الأحاسيس المعنوية مثل الرضا ومثل النية؟ صحيح أن هناك دراسات أثبتت وجود ضعف في قدرة الموسوسين (مقارنة بالأصحاء) على إدراك الوقت وعلى الإحساس بالفهم وببدء الحركة وكذلك إدراك العواطف (Lazarov et al., 2022)، وإثبات ذلك يوسع من المقدرة التفسيرية للنظرية لكن تلك النتائج ما تزال بحاجة إلى تكرار وتأكيد فضلا عن تعميق الفهم لماهية وطبيعة وسبب نقيصة عمه الدواخل.
وأما مشاعر اللا اكتمال (لا اكتمال الفعل و/أو الخبرة) فيمكن أن يفسرها ضعف التواصل مع الدواخل باعتباره يمنع المريض من الوصول إلى الإحساس الداخلي المستهدف للشعور بالاكتمال، لكنه، أي ضعف أو خلل التواصل، لا يفسر لا إ.ل.ص.ت ولا حواث الفعل ولا الظواهر الحسية الجسدية، في حين يمكن تفسير كل هذه الظواهر بما فيها انعدام الشعور بالاكتمال من خلال اضطراب الحس الداخلي، والحقيقة أن اختلال علاقة مريض الوسواس القهري بإدراكه أو حسه الداخلي (أي في كيفية معالجة الدماغ للإشارات القادمة من الجسد) ينتج عنها اختلال علاقة المريض ليس فقط بمشاعره الجسدية وإنما بشعوره بملكية جسده وشعوره بفاعليته الشخصية، ويبرز كثير من نقاط الضعف الشعوري المعرفي حين تتعطل معالجة الدماغ لإشارات الجسد. إلا أن نظرية خلل التكامل الحسي الحركي، والتي تعتبر اضطراب الوسواس القهري بمثابة اضطراب حسي حركي (Russo, et al., 2014) يمكنها أيضًا تفسير مشاعر اللا اكتمال وإن لم يكن في ذلك تعارض مع نظرية عمه الدواخل.
فحسب هذه النظرية الحديثة يفترض أن خللا في التكامل الحسي الحركي Sensorimotor Integration يلعب دورًا مهمًا في إحداث الأعراض المرضية للوسواس، يتمثل في نقص التحكم القشري المثبط للناتج الحركي، بسبب خلل المعالجة الحسي-حركية Sensorimotor Processing في دماغ مرضى اضطراب الوسواس القهري، وتستند هذه النظرية إلى نتائج دراسات أثبتت شيوع العلامات العصبية اللينة Neurological Soft Signs كما أثبتت دراسات الفسيولوجيا العصبية أن نظامي* السيطرة الحركية يظهران أوجه قصور في مرضى الوسواس القهري (Szalai J, 2019)، كذا ثبت أن موجات السلبية للخطأ ERN الكثيفة في رسم المخ تكاد تكون ميزة أو نمط داخلي للوسواس القهري، وتنتج هذه الموجات عن الفعالية غير المنضبطة للوصلات العصبية الجبهية المخططية Frontostraiatal Connections وهي الدائرة العصبية المتورطة في الوسواس القهري، وهذه الموجات ربما تؤدي إلى حدوث إشارات خطأ متكررة قد تكون سببا في إشعار المريض بالشك أو اللا اكتمال وإ.ل.ص.ت وسببا في التردد الوسواسي والتكرار وربما الحساسية المفرطة للأخطاء...إلخ ويؤدي ذلك إلى عمليات تحكم عقلية مفرطة وإلى نمط استجابة تجنب الخطأ أو الضرر المرتبط بالتوتر أو الضيق/القلق (Schmidt , et al., 2021).
تضيف هذه النظرية إلى النظريات المعرفية ووراء المعرفية لشرح الوسواس القهري ما يكمل بعض نقاط ضعفها، فبينما ترى تلك النظريات الوسواس أو الحدث الوسواسي في المخ أساسا ونقطة ابتداء ينتج عنها ما يؤدي إلى الفعل القهري أي من أعلى لأسفل Top down (من معرفي إلى جسدي) فإن نظرية خلل التكامل الحسي الحركي تضيف ما يمكن اعتباره مكملا للشرح لكنه في عكس الاتجاه أي من أسفل لأعلى Bottom up.. إذ تهتم الأبحاث الحديثة بدراسة السلوك القهري باعتباره متصلا مستقلا يمكن أن ينشأ ويتطور وحده بشكل مستقل عن الأفكار والقلق، بل يمكن أن ينتج عنه القلق، وبدلا من تسمية "اضطراب الوسواس القهري" يقترحون تسمية "اضطراب القهر الوسواسي"، فالموسوس لا يغسل يديه قهريا لأنه يخاف من التلوث، وإنما هو يخاف من التلوث لأنه يغسل يديه قهريا.
وفيما يخص الشعور بالفاعلية الشخصية (المستقلة) فإنه يعتمد إلى حد كبير على سلامة مسارات الحس الداخلي وسلامة معالجة المعلومات الحسية الحركية وهناك ما يشير إلى خلل وظيفي في كل من المسارات والمعالجة في مريض الوسواس القهري، فمرضى الوسواس القهري قد يخفقون في التنبؤ بالنتائج الحسية لأفعالهم ويخفقون بالتالي في قمعها لتتوقف بعد إنهاء المطلوب، وهناك ما يشير إلى وجود ضعفٍ في تعديل المعلومات الحسية في مرضى اضطراب الوسواس القهري، والضعف ينتج عن فرط الاستثارة في الباحات القشرية الحركية الأولية والثانوية، والذي يؤدي أيضًا إلى تضعيف الإحساس بالفاعلية الشخصية وباستقلال قرار الفعل، بل إن من الدراسات ما يشير إلى غياب المفردات اللغوية التي تعبر عن الإحساس بالفاعلية الشخصية من كلام مرضى الوسواس القهري (Oren et al., 2016)، ومن الواضح أن نظرية عمه الدواخل تستطيع بسهولة تفسير اختلال الحس الداخلي وما ينشأ عنه من خلل الشعور بالفاعلية والاستقلال.
يذكرنا ذلك بما يسمى في الطب النفساني بخبرات السلبية Passivity Experiences (أي شعور المريض بأن الإحساس، الاندفاعات، والأفعال الإرادية هي من جراء فعل قوة خارجية وربما الشعور كأنه أو أنه تم استبدال إرادة الفرد وأفكاره وأفعاله أو يتم التأثير فيها ببعض العوامل الخارجية) وتبدو هذه الخبرات رغم ارتباطها المعروف بالذهان كونها أساسا لوهامات السيطرة Delusions of Control، ذات صلة كبيرة أيضًا بالوسواس القهري، حيث أن التجربة الذاتية للعديد من مرضى الوسواس القهري هي أن أفكارهم الوسواسية وسلوكياتهم القهرية لا إرادية، ولا يمكن مقاومتها أو حتى السيطرة عليها خارجيًا... لكن علينا أن نلاحظ فارقا مهما بين خلل الشعور بالفاعلية الشخصية في مريض الذهان وخلله في مريض الوسواس، ففي حين يفقد مريض الذهان استبصاره تماما بملكية الأفكار والأفعال والمشاعر، فإن مريض الوسواس رغم رفضه يبقى لديه كثيرٌ من الاستبصار بأنها أقواله أو مشاعره أو أفعاله هو وإن لم يكن كامل السيطرة عليها دائما.
كذلك تتسع المقدرة التفسيرية لنظرية اختلال علاقة مريض الوسواس بحسه الداخلي لتشمل الظواهر الحسية وهي أحاسيس جسدية تسبق الحدث الوسواسي أو تصاحبه أو تقوم بدوره أحيانا، فهي أحاسيس جسدية تؤثر في قرار الشخص وسلوكه، وتزيد من قابلية الانخداع لديه. فمثلا يشعر الموسوس بإحساس كأنه نزول نقطة بول أو خروج ريح، كما يشعر مريض الوسواس الخائف من الشذوذ بأحاسيس جنسية مربكة مثل قشعريرة الدبر وغيرها، وتضعف قدرته على تكذيب الوسواس بأنه شاذ في نفس الوقت الذي يعوقه فيه عمه الدواخل عن التواصل السليم مع مشاعره وأحاسيسه حتى يختلط عليه كل شيء ويصبح أكثر وثوقا في مصادر الطمأنة الخارجية لعجزه عن الوصول إلى الطمأنة من داخله.
وأخيرا هناك نقطة لابد من التفكير العميق فيها أستند فيها إلى خبرات كثيرٍ من مرضى الوسواس القهري أثناء الع.س.م CBT تتعلق بإبلاغهم عن اكتشافهم أو إبداء دهشتهم من أن المعلومات الداخلية المستهدفة بلا جدوى أثناء النشاط الوسواسي المتمثل في محاولة استبطانها (مثلا ذكرى موقف أو إحساس معين) يجدونها أحيانا متاحة جاهزة داخلهم كما اعتادوا قبل المرض، لكن ذلك التواصل "الطبيعي" مع الدواخل يختل بمجرد التذكر أو البدء في الاستبطان الواعي... بعضهم يشبه الحالة بالسراب الذي نادرا ما يرونه، كذلك يؤكد أغلب مرضى الوسواس القهري أنه لم تكن لديهم أي مشكلات في النية أو الاكتمال في فترة ما قبل ظهور الأعراض المرضية، أرى أن تلك الملاحظة تحتاج مزيدا من التأمل في استناد نظرية ط.ب.ح.د إلى ما هو أقرب للسمات البنيوية الدائمة التي تشيع في ذوي الميول الوسواسية من المرضى والأصحاء، في حين تشير خبرات المرضى إلى ارتباط ظاهرة عمه الدواخل بالحالة الوسواسية الراهنة لدى المريض أو على الأقل بحدوث زيادة شرسة في ضعف القدرة على قراءة الدواخل.،
* يستخدم الجهاز العصبي المركزي ما يسمى بالنموذج الأمامي الداخلي Internal Forward Model للتحكم الحركي لمحاكاة عمليات النظام الحركي. يتم إرسال نسخة مرجعية من الأمر الحركي المرتبط بالموضع المطلوب للجسد إلى النموذج الأمامي، والذي ينتج عنه تنبؤ بشأن موضع الجسد الذي ينتجه الإجراء أو الحركة. وبالتالي يقارن نظامان مختلفان لاكتشاف الأخطاء النتائج المرغوبة والفعلية، والنتائج المتوقعة والفعلية.
المراجع:
1- Lazarov A (2022). Are people with obsessive compulsive disorder under-confident in their memory and perception? A review and metanalysis. Psychological Medicine 52, 2404–2412. https://doi.org/10.1017/S0033291722001908
2- Szalai, J. (2019). The Sense of Agency in OCD. Rev.Phil.Psych. 10, 363–380 (2019). https://doi.org/10.1007/s13164-017-0371-2
3- Schmidt S, Wagner G, Walter M, Stenner MP. A (2021). Psychophysical Window onto the Subjective Experience of Compulsion. Brain Sci. 2021 Feb 2;11(2):182. doi: 10.3390/brainsci11020182. PMID: 33540916; PMCID: PMC7913241.
4- Oren, E., Friedmann, N., & Dar, R. (2016). Things happen: Individuals with high obsessive– compulsive tendencies omit agency in their spoken language. Consciousness and Cognition, 42, 125–134.
اقرأ أيضاً:
التواكب المرضي بين الوسواس القهري والاكتئاب2 / لماذا الوسواس القهري أسباب الوسوسة القهرية5