خلل الحس الداخلي في اضطرابات القلق
أشرنا في مقالين سابقين إلى الأهمية التي أصبحت دراسة الحس الداخلي تتلقاها في كل من العروض السريرية وطرائق العلاج المختلفة لمختلف الاضطرابات النفسية، وخصصنا مقالا للحس الداخلي في اضطرابات القلق، وهذا هو المقال عن الحس الداخلي في اضطرابات طيف الوسواس القهري، والواقع أن هناك مجموعة صغيرة، لكن متزايدة من الأبحاث حول دور الحس الداخلي في اضطراب الوسواس القهري، ولعل من الممكن القول بأن استقبال الأطباء النفسانيين لفكرة وجود دور مهم للحس الداخلي أو لأحاسيس الجسد في مرضى الوسواس القهري لم يكن سهلا، سبب ذلك أن الوسواس القهري ما يزال يفهم على أنه اضطراب "فكري معرفي" وليس "حسي جسدي"، وكان هذا أحد أسباب كتابتي لمقالتي الظواهر الحسية في طيف الوسواس القهري(1-2) والتي وصفت فيها عددا من حالات وسواس قهري تظهر ما سميته إدراكات حسية كاذبة، وكان أهمها الحالة الأولى والتي تصف إدراكات حسية كاذبة في الدبر يسميها المريض الخائف من الشذوذ قشعريرة الدبر، وكثيرا ما اختلفت مع زملائي وأساتذتي فلا أحد منهم يقبل بدور لأحاسيس جسدية كاذبة في مريض موسوس وليس ذهانيا (أي عاقل) وكذا مقالة الوساوس الحسية الجسدية والخارجسدية التي تشرح شكلا من أشكال الوسوسة بالحس الداخلي الخاص بعضو من أعضاء الجسد أو وظيفة فسيولوجية معينة فينصب عليه انتباه المريض وتزداد حساسيته له أو يلجأ المريض إلى الإلهاء المستمر أي تحاشي الانتباه لذلك العضو أو تلك الوظيفة، وكذلك أشرت إلى أهمية الأحاسيس الجسدية في مرضى الوسواس قبل أعلاه في مقالة قديمة من 2007 تحت عنوان: فكرة تسلطية أم حدث عقلي تسلطي؟ وناديت في ذلك المقال بضرورة تغيير تعريف الوسواس في الطب النفسي ليشمل الأحاسيس الجسدية أي ليس الوسواس فقط أفكار أو صور أو نزوات أو حواث فعل، وإنما أيضًا يمكن أن يكون أساس الوسواس إحساسا جسديا مربكا. وهناك العديد من الأحاسيس الجسدية السابقة للقهور والتي يمكنها في وجود الخوف أو البعد المعرفي التأويلي أو عدم وجودهما أن تدفع إلى القهور، وبالتالي فإن دراسة تغيرات الحس الداخلي ودورها في إدامة الاضطراب إن لم يكن في إحداثه، هدف بحثي في منتهى الأهمية، خاصة وأن هناك جوانب إضافية من تغيرات الحس الداخلي في الوسواس القهري قد لا تؤدي بالضرورة إلى السلوك القهري بمعناه التقليدي، لكنها يمكن أن تؤثر سلبًا على مسار المرض والاستجابة للعلاج في الاضطراب كحساسية القلق على سبيل المثال.
يمكننا الحديث عن ثلاثة تجليات لاختلال الحس الداخلي في الوسواس القهري تؤثر كل منهم بطريقة مختلفة في إحداث أعراض الاضطراب وإدامته، الأول هو فرط الانتباه والمراقبة للحس الداخلي والثاني هو الظواهر الحسية، والثالث هو عمه الدواخل أو صعوبة الوصول الواثق إلى معطيات الحس الداخلي، فأما فرط الانتباه والمراقبة، فهو ما يجعل كثيرين من مرضى الوسواس القهري يعيشون في مراقبة مستمرة بشكل مرضي لأفعالهم وأفكارهم وأحاسيسهم وبيئاتهم فيرصدون التفاصيل التي عادة ما يكون لدى البشر القليل من الوصول الواعي إليها (Yoris et al., 2016) ويرى أصحاب هذه الرؤية (Levy, 2018) أن اضطراب الوسواس القهري يتضمن بشكل مركزي انتباهًا متزايدًا ومركّزًا بشكل مختل وظيفيًا على التمثيلات الحسية والحركية التي لا يراقبها الإنسان عادة، وهذا يجعل المريض في انتباه ومراقبة مستمرة لكل من حسه الخارجي والداخلي، وأخيرا فإن فرط الانتباه لا يشتكي منه المريض ونادرا ما يشتكي منه المريض بشكل مباشر لكنه يستنتج بوضوح من الشكوى.
وأما الظواهر الحسية فإنها كثيرا ما تكون جزءًا من شكوى المريض وهو يؤولها بما يتناسب مع موضوع وسواسه، لكنها على مر العقود الثلاثة الأخيرة شكلت مشكلة تشخيصية للأطباء النفسانيين نظرا لخلو معايير تشخيص الوسواس القهري من الأحاسيس الجسدية، وسنورد في هذا المقال الجديد عن الظواهر الحسية وعلاقتها بالجزيرة والباحة القشرية الحسية الجسدية، وأما عمَهُ الدواخل فقد خصصنا له عدة مقالات من قبل.
لا أريد القول بأن دور الحس الداخلي في اضطرابات طيف الوسواس القهري أكبر من دوره في اضطرابات القلق، لكنه بالتأكيد أكثر إلغازا وتركيبا وشمولا نظرا للتباين الشاسع في عروض الوسواس القهري السريرية، ورغم أن نتائج دراسات الخلل الحسي في الوسواس القهري ما تزال مختلطة (Bragdon et al., 2021) ففيما يتعلق بدقة الحس الداخلي Interoceptive accuracy (كان المرضى أكثر دقة في دراسة وأقل في اثنتين)، وفيما يتعلق بحساسية الحس الداخلي Interoceptive Sensibility أظهر مرضى الوسواس القهري درجة أعلى من الملاحظة -فيما يتعلق بالمسؤولية، الأذى، التناظر، الترتيب- والتشتت -فيما يتعلق بالأفكار المحظورة، أو المرفوضة- والتوجس والوعي العاطفي والإنصات ولكنهم كانوا أقل ثقة، وأكثر سلبية في تقييماتهم العاطفية للأحاسيس الجسدية أو إشارات الحس الداخلي)، ورغم عدم التطابق في نتائج الدراسات إلا أن الخبرة الذاتية لإشارات الحس الداخلي في مرضى الوسواس القهري غير نمطية وترتبط بوضوح بأنماط محددة من أعراض الوسواس وعروضه السريرية المختلفة كما تشير دراسات التصوير العصبي إلى ارتباط الحس الداخلي بالسمات الأساسية للوسواس القهري، وخاصة الظواهر الحسية والاشمئزاز أو التقزز والشعور بالذنب، كما أثبت أن استثارة أعراض الوسواس القهري تؤدي إلى زيادة نشاط الجزيرة وهي البنية الدماغية المختصة بالحس الداخلي. وكان نشاط الجزيرة مفرطا بشكل غير طبيعي في مرضى اضطراب الوسواس القهري، ويزيد نشاط الجزيرة الأمامية مع مفجرات الوساوس (Rotge, 2008).
الظواهر الحسية
الظواهر الحسية هي اسم جامع لمجموعة من الأحاسيس الجسدية المزعجة التي تسبق الفعل القهري في مرضى الوسواس القهري وهي بارزة في العرض السريري لما بين 50-80٪ منهم يشعرون بأحاسيس جسدية إما مدعمة للفكرة الوسواسية، أو ربما مسببة لها!، أو على الأقل! مزعجة تدفع للفعل القهري وترتبط الظواهر الحسية سريريا بقهور اللمس والعد والتكرار "و.ل.ت.ق" ومن أمثلتها عدم الاكتمال وإل.ص.ت، والأحاسيس الجسدية البؤرية مثل دغدغة أو دفء أو برودة أو ضغط في منطقة ما أو الأحاسيس الجسدية المعممة (لمسية، أو عضلية هيكلية، أو حشوية، أو كليهما) ومنها الشعور بخروج نقطة بول أو ريح أو بالتلوث أو حتى بأحاسيس جنسية غير ملائمة... إلخ.
وصفت الظواهر الحسية بداية في مرضى العرّات المزمنة من الأطفال واضطراب توريت حيث يسبق الإحساس المزمن فعل العرّة، بينما ظلت مهملة في اضطراب الوسواس بسبب اعتباره اضطراب تفكير من معظم الباحثين أي أنه اضطراب من أعلى (وهو المخ أو العقل الذي إليه ترد الوساوس) لأدنى (وهو الجسد الذي ينفذ القهور)، وليس العكس وبالتالي كانت الشكاوى الجسدية تفهم فقط في إطار أنها انعكاس لما هو في العقل بسبب القلق وتركيز الانتباه، حتى بدأت في أوائل هذا القرن وغالبا مع انتشار العلاج السلوكي المعرفي الذي ربما أعطى كلا من المعالج والمريض فرصة أكبر لفهم الأعراض وآليات الاضطراب وأسباب إدامته، فبدأت أصوات من هنا ومن هناك تشير إلى وجود أعراض جسدية مهمة في الوسواس القهري وفاعلة في عروضه المختلفة وذات تأثير كبير في إدامة الاضطراب، وأهم من ذلك أن وجود إدراكات حسية كاذبة ضمن أعراض الوسواس القهري لا يجب أن يعني أنها هلاوس وأن المريض ذهاني! بل هي ببساطة وساوس حسية Sensory Obsessions وهذه الوساوس الحسية هي أحاسيس جسدية يمكن أن تكون عبر أي من الحواس الخمس المعروفة، بل وأحيانا عبر أكثر من حاسة وما يعرفها هو أنها تنشئُ الوسواس أو الفكرة الوسواسية وليس تنتج عنها ولا عن القلق كما اعتدنا أن نفكر لما يزيد على عقدين من الزمن... لعل أشهر هذه الظواهر الحسية هي مشاعر اللا اكتمال وإدراكات ليس صحيح تماما إ.ل.ص.ت NJREs والتي نالت كثيرا من الاهتمام بعد إهمال طويل، ومنها أيضًا حواث الفعل ومن أمثلتها الشعور بوجود شيء ما في الحلق أو بعدم الراحة الموضعي في الكتفين، كحاث للفعل، مما يؤدي إلى الحاجة إلى التنحنح أو هز الكتفين... ولا يخفف من هذا التوتر أو الإحساس المزعج إلا فعل العرة، على غرار خدش الحكة.
حواث الفعل
حواث الفعل Urges-For-Action هي الأحاسيس اليومية التي تحفز السلوكيات التكرارية الطبيعية كالرمش أو الهرش، والحقيقة أن الحوافز أو الحواث الشعورية المنذرة Premonitory Urges التي تسبق السلوكيات المتكررة في مرضى العرَّات أو اضطراب الوسواس القهري قد تكون مشابهة ظاهريًا لـ "الحث على الفعل" أو حواث الفعل المعتادة. لكن ما يميز حواث الفعل المرضية أو خبرات ما قبل الفعل القهري عن تلك الطبيعية والمرتبطة بالسلوكيات المقصودة والموجهة نحو الهدف كالرمش أو الهرش، هي أن الشعور بالحاجة إلى قمع أو تأخير السلوك فيجعله ذلك يتراكم بمرور الوقت وينتج عن ذلك توتر متزايد كلما طالت مدة قمع السلوك، وقد بينت دراسات التصوير العصبي الوظيفي أن حواث الفعل الطبيعية اليومية تنشط شبكة من مناطق الدماغ تشمل الجزيرة والقشرة الحسية الحركية، والقشرة الحزامية، والجسم المخطط، القشرة الجدارية، والطليعة.. إلخ. وهذه المناطق تتداخل مع تلك التي أظهرت نشاطًا عصبيًا أكبر أثناء دراسة قمع الرمش في مرضى اضطراب الوسواس القهري (Stern et al., 2021)
ومن اللافت أن النتائج المستخلصة من دراستي تصوير وظيفي لمرضى الوسواس القهري (Subira et al., 2015) وأيضا (Brown et al., 2019) تشير إلى وجود علاقة بين الظواهر الحسية والمناطق العصبية المرتبطة بالحس الداخلي بما في ذلك الجزيرة والباحات القشرية الحركية والحسية والحسية الجسدية كما ارتبطت شدة الظواهر الحسية الأعلى بالنشاط الأكبر للجزيرة الوسطى الخلفية، وكذلك القشرة الحسية الجسدية، والقشرة الأمامية المدارية ، وقشرة الفص الجبهي الوحشي. كما كان من المثير للاهتمام، أن أحجام المادة الرمادية الأكبر في المناطق الحسية ارتبطت بوجود الظواهر الحسية في مرضى الوسواس القهري مقارنة بعدم وجودها.
المراجع:
1. Yoris, Adrian & Caro, Miguel & Alifano, Flor & Salamone, Paula & Fittipaldi, Sol & Ibanez, Agustin.(2016). The inner world of overactive monitoring: neural markers of interoception in OCD. International Journal of Psychophysiology. 108. 113. 10.1016/j.ijpsycho.2016.07.340.
2. Levy N (2018). Obsessive-compulsive disorder as a disorder of attention. Mind & Language. 2018;33:3–16.
3. Bragdon LB, Eng GK, Belanger A, Collins KA, Stern ER.(2021).Interoception and Obsessive-Compulsive Disorder: A Review of Current Evidence and Future Directions. Front Psychiatry. 2021 Aug 25;12:686482. doi: 10.3389/fpsyt.2021.686482. PMID: 34512412; PMCID: PMC8424053.
4. Rotge JY, Guehl D, Dilharreguy B, et al.(2008). Provocation of obsessive-compulsive symptoms: a quantitative vox- el-based meta-analysis of functional neuroimaging studies. J Psychiatry Neurosci. 2008;33(5):405–12.
5. Stern ER, Brown C, Ludlow M, Shahab R, Collins K, Lieval A, et al.(2020).The buildup of an urge in obsessive-compulsive disorder: behavioral and neuroimaging correlates. Hum Brain Mapp. (2020) 41:1611–25. doi: 10.1002/hbm.24898
6. Subira M, Sato JR, Alonso P, do Rosario MC, Segalas C, Batistuzzo MC, et al.(2015). Brain structural correlates of sensory phenomena in patients with obsessive-compulsive disorder. J Psychiatry Neurosci. (2015) 40:232–40. doi: 10.1503/jpn.140118
7. Brown C, Shahab R, Collins K, Fleysher L, Goodman WK, Burdick KE, et al. (2018).Functional neural mechanisms of sensory phenomena in obsessive-compulsive disorder. J Psychiatr Res. (2019). 109:68–75. doi: 10.1016/j.jpsychires.2018.11.018
ويتبع>>>>: خلل الحس الداخلي في اضطرابات الوسواس القهري2
اقرأ أيضاً:
العروض السريرية الأربعة للوسواس القهري / خلل الحس الداخلي في الاضطرابات النفسية