"فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ" طه ٤٠
يكثر البشر من استعمال مصطلح التعلق في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والنفسانية والوظيفية. يتحدث الإنسان عن تعلقه بالوطن إن كان يعيش في وطنه أو تحتضنه بقعة من بقاع الأرض نشير إليها بالغربة. بعدها يتحدث الإنسان عن تعلقه بمكان عمله، وتراه يعاني الكثير عند الرحال إلى مكان عمل آخر. قائمة ما يمكن أن يتعلق به الإنسان لا نهاية لها ولا تشمل فقط الوطن والعمل والعائلة وإنما هناك من يكون شديد التعلق بكائنات حية متعددة مثل القطط والكلاب وحتى بلعبة يحملها في جيوب ملابسه. ظاهرة التعلق التي تلازم الإنسان طوال عمره مصدرها واحد فقط وهي الطفولة.
في نفس الوقت ما نعلمه هذه الأيام بأن التعلق عملية بيولوجية1 مصدرها الدوائر العصبية في الدماغ وتبدأ منذ عمر مبكر وتتأثر بالظروف البيئية حتى هناك من يقول بأن هرمونات الأم أثناء فتر الحمل قد يكون لها تأثير سلبي على هذه الدوائر. وفي نفس الوقت أيضًا تكثر العلوم النفسانية هذه الأيام في التركيز على دور الصدمات التي يتعرض إليها الإنسان في حياته وخاصة في مراحل الطفولة، وعلى صحته النفسانية وعلاقاته الاجتماعية. ما تشير إليه الدراسات بأن الصدمات تؤثر سلبياً على التعلق والتعلق الغير آمن2 بدوره يؤثر سلبياً على تفاعل الإنسان مع الآخرين وتعامله مع الصدمة وبالتالي يتم استحداث دائرة مغلقة أشبه بفخ لا يستطيع الإنسان الخروج منه.
التعلق في مراحل الطفولة
ترتبط الأم بطفلها منذ أيام الحمل، ويبدأ هذا الارتباط بالنمو مع تقدم الأسابيع واقتراب موعد الولادة. يمكن تعريف هذه العملية بالارتباط الأمومي ويمكن توضيحه باختصار على أنه حرص الأم على خلق محيط عاطفي خاص للطفل في داخلها. عملية الارتباط الأمومي Maternal Bonding تبدأ بخلق أفكار وأحلام حول الحياة الموجودة في داخل الرحم وماذا تعني للأم. هذه العملية قد تتأثر بالعديد من المشاكل النفسانية والطبية التي قد تتعرض لها الأم خلال أشهر الحمل، وبدورها قد تؤثر سلبياً على علاقة الأم بالطفل، وعلى ضوء ذلك لابد من الانتباه إلى الصحة النفسانية والجسدية للمرأة خلال أشهر الحمل. كذلك لابد من توثيق العلاقة مع الزوج في هذه المرحلة ومشاركته في المتابعة الصحية للمرأة والتخطيط معاً للأيام القادمة. من خلال ذلك يمكننا أن نتصور بأن علاقة الأم بطفلها تنتج مخططات عقلية Mental Schemas في الأم منذ مرحلة مبكرة وقبل ولادة الطفل.
في نفس الوقت هذه هناك دوائر عصبية يتم توثيقها في النصف الأيمن من دماغ3 الطفل وخاصة دائرة تربط اللوزة اليمنى والدائرة الحزامية اليمنى مع الفص الجبهي. هناك من يشير إلى أن هرمون الكورتيزول الذي يكثر إنتاجه أثناء الضغوط البيئية قد يتسرب عبر المشيمة إلى الطفل في الرحم وبالتالي قد يؤثر سلبياً على نمو الدوائر العصبية في النصف الأيمن من الدماغ الذي يعني بالحياة العاطفية.
عندما نتحدث عن التعلق فالإشارة هنا تكون نحو ما نسميه بنظرية التعلق Attachment Theory المرتبطة باسم جون بولبي John Bowlby4. استعمل الأخير هذا المصطلح في أول الأمر عام 1958 وبعدها طور النظرية من خلال ثلاثة نشرات تحت اسم الضياع التعلق Attachment & Loss في 1969، 1973، و1980 ولم تلاقي هذه النظريات انتباه الكثير من الأطباء النفسانيين والباحثين في علم النفس لفترة طويلة ولكنها بدأت تتبوأ مقعدها مع زيادة الاهتمام بدراسة العلاقة بين الطفل والوالدين في شتى المجالات الطبية والاجتماعية ومؤخراً بتأثير الصدمات النفسانية على الصحة العقلية.
تعريف التعلق:
هو وثاق بيولوجي الأصل بين الطفل ومن يرعاه والذي من خلاله يتم ضمان سلامة الطفل. في هذا النموذج يسعى الطفل إلى التقرب إلى من يرعاه والحصول على رد فعل مريح ومفيد. تبدأ هذه العملية منذ الأسابيع الأولى وتصبح واضحة ومتميزة في عمر ستة أشهر، ويضيف البعض بأن فترتها الحرجة هي بين عمر 6 – 18 شهراً. عندما يتوجه الطفل نحو من يرعاه وتبدأ عملية التعلق فهناك صفات معينة في شخصية الأم أو من يرعى الطفل والتي بدورها تساعد على سير العملية بصورة صحية وهي:
1- التناسق في السلوك ورد الفعل.
2- جدير بالثقة.
3- تحليه بالصبر.
4- الحزم والسيطرة.
ومن جراء هذه العملية يتم استحداث نماذج داخلية عملية للعلاقات ويتم خزنها كمخططات عقلية يتم استعمالها في جميع مراحل الحياة. هذه المخططات العقلية تتعلق بتوقعات الإنسان حول سلوك الآخرين حوله. في هذا المرحلة يمكن أن نتحدث أن هناك نوعين من المخططات العقلية التي يخزنها الإنسان:
1- مخططات منذ الطفولة يتم خزنها من جراء تعلق الطفل بمن يرعاه.
2- مخططات تخزنها الأم من جراء حملها للطفل والرعاية به.
المخططات الأولى أكثر ثباتاً وتفعل فعلها في العلاقات البشرية طوال العمر. أما المخططات الثانية فلها علاقة أيضاً بالمخططات الأولى التي تم خزنها وكذلك بالظروف الاجتماعية والصحية أثناء فترة الحمل ورعاية الطفل.
استراتيجيات التعلق:
هناك إجماع على أن استراتيجيات التعلق لا علاقة لها بالوراثة من قريب أو بعيد. في نفس الوقت تشير بعض الدراسات بأن التعلق يؤثر على فعالية الجينات5 التي يحملها الإنسان وهذه قد يتم توارثها الجيل بعد الاخر. يتم استحداث هذه الاستراتيجيات منذ الطفولة وتبقى ثابتة نسبياً مع تقدم العمر. يتم تصنيف هذه الاستراتيجيات على ضوء سلوك الطفل عند فراقه للأم أو من يرعاه كالآتي:
١- الطفل الآمن Secure Child: يعود الطفل إلى التقرب بسرعة عند رجوع الأم ويشعر بالسعادة.
٢- الطفل المتجنب Avoidant Child : يكون أقل قلقاً عند الفراق ولا يبالي بعودة الأم وحتى بمن يتولى رعايته.
٣- الطفل المتردد Ambivalent : يكون أكثر الأطفال كرباً وألماً عند الفراق وتظهر عليه علامات الغضب وسلوك التشبث عند رجوع الأم.
٤- الطفل المضطرب والمشوش Disorganized – Disoriented : لا يمكن الحصول على أي سلوك واضح له عند الفراق من الأم والعودة لها.
هذه الاستراتيجيات الأربعة تشبه إلى حد كبير فئات أو أنواع التعلق بين البالغين كما يلي:
١- الأفراد الذين يشعرون بالاستقلال والأمن ويحرصون كل الحرص على العلاقات البشرية مع الغير.
٢- الأفراد الذين لا يشعرون بالأمن في العلاقات ويميلون إلى تحقير العلاقات وغيرهم من الناس في معظم الأحيان، وأحياناً ولفترة محدودة يجللون بعض العلاقات البشرية.
٣- أفراد يشغلون تفكيرهم بعلاقات الماضي والحاضر وتراهم في ضياع وارتباك مع غيرهم من البشر.
٤- أفراد لا يفهمون موقعهم في الدنيا وترى آثار الإهمال وصدمات الماضي واضحة عليهم.
نقاش
مسألة تعلق البشر بعضهم ببعض له تاريخه الطويل وتساءل الباحثون دوماً حول أيهما الأهم: طبيعة الإنسان وخصائصه أم تربيته Nature versus Nurture لا يزال هذا السؤال يطرح نفسه حتى يومنا هذا فهناك من يقول أن الجينات التي يحملها الإنسان لها الصدارة والآخر يميل إلى العكس، والبعض يجمع بين الاثنين.
أول إشارة تاريخية لدراسة أمر التعلق مصدرها الإمبراطور الروماني فردريك الثاني الذي أمر في القرن الثالث عشر بجمع بعض الأطفال في عمر الرضاعة وإعطائهم عناية جسدية فقط مثل الغذاء والملبس ولكن عدم السماح لأي من يتولى رعايتهم بالكلام معهم. كانت غاية هذا الإمبراطور "المقدس" اكتشاف أي لغة سيختار الأطفال مستقبلاً. بالطبع لم يكشف عن نتائج هذه التجربة الرهيبة إلا أحد الرهبان حيث دون بعدها أن الأطفال لقوا حتفهم مع الأيام، فلا طعام أو ملبس يمكن أن يغطي احتياجات الطفل بدون لمسة حنان وعطف واتصال متبادل مع من يرعاه.
كان على الإمبراطور أن يتعظ بأعمال فلاسفة اليونان مثل بلاتو (أفلاطون) وأرسطو، قبل أكثر من ألف عام من تجربته المريعة. أكد هؤلاء الفلاسفة العظام على أهمية العوامل البيولوجية والبيئية في نشأة الإنسان، والصراحة هذا هو الرأي السائد إلى اليوم. جاء عصر النهضة بعد ذلك والجميع على إلمام بآراء جان جاك روسو الذي جادل بأن الصفات الحميدة تكون مزروعة في الإنسان منذ الولادة ولا يغير ذلك فيه إلا البشر الذين يعيشون في محيطه.
يمكن أن نعرف مفهوم التعقل بأنه قابلية الإنسان على إدراك أن تفكيره وتفكير الآخرين تمثيلي Representational في طبيعته، وأن سلوكه وسلوك الآخرين مدفوع بحالة داخلية مثل الأفكار والمشاعر. تفهم الأم وتستوعب وتستجيب لاحتياجات الطفل ويتم ذلك عن طريق ضبط الحالة العقلية والنفسية للطفل في داخلها. من جراء ذلك يشعر الطفل بأنه أصبح جزءًا لا يتجزأ من الحالة النفسية والعقلية للأم. بعدها يقوم الطفل بدوره باستيعاب الأم في داخله. على ضوء ذلك هناك تمثيل للأم في عقل الطفل ناتج عن تمثيل الطفل في بداية الأمر في داخل الأم. متى ما تم الأمر بصورة صحية أصبح الطفل قادراً كذلك على استعمال التعقل في التعامل مع الآخرين وإن السلوك ما هو إلا نتيجة لأفكار ومشاعر في داخله.
يميل الإنسان بعد مرحلة البلوغ الى استعمال فصه الأيسر الذي يساعده على التفكير والتحليل وتقييم حياته وتواصله مع الآخرين. فعالية الفص الأيسر السائدة بعد البلوغ تتأثر كذلك بفعالية الفص الأيمن العاطفي عندما يواجه الإنسان ضغوط بيئية صعبة. فعالية النصف العاطفي بدوره يؤدي إلى اختلال فعالية الفص الأيسر و يتخذ الإنسان قرارات غير منطقية تؤثر سلبياً على موقعه الاجتماعي. الإنسان الذي يحمل معه تعلق آمن من الطفولة يميل إلى اتخاذ قرارات سليمة على عكس الإنسان الذي حمل في داخله تعلق غير آمن.
لابد من الاشارة إلى طبيعة العلاج النفسي الذي يتم تقديمه إلى المرضى والشكوك التي تحوم حوله وهل هو محدد ومميز بنظرية نفسية علاجية واحدة أم لا. على ضوء ذلك ترى بأن مبدأ التعقل أكثر تقبلا ولا يخضع لقواعد نظرية مميزة يُفترض استعمالها في العلاج، وإنما هو طريقة تواصل إنسانية بين المعالج والمريض مبنية على استيعاب الحالة النفسية للمريض وإدراك الحالة النفسية للمعالج نفسه في عين الوقت. من هنا ندرك أهمية ادراك طبيعة تعلق الإنسان بغيره في مرحلة مبكرة من العلاج6.
تعرض الإنسان لصدمات في الطفولة من قبل من يرعاه في البيت أو المحيط الذي يعيش فيه يؤثر سلبياً على تعلقه بالآخرين ويصبح أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسانية متعددة . هذا التعلق يظهر كذلك في علاقة المراجع مع معالجه النفساني، وتراه يكرر ما تعلقه الغير آمن مع من حوله في تواصله مع المعالج النفساني. رغم كثرة التركيز هذه الأيام على دور الصدمة النفسانية وعلاجها في مختلف الاضطرابات، ولكن العامل الأول والأخير الذي ينقل الإنسان من موقع مرتبك غير صحي إلى موقع جديد وتعلق آمن مع من يبادله المودة، وما يسعى إليه المعالج النفساني تشجيع الإنسان على الانتباه لسلوكيات تؤدي إلى تدمير أي ارتباط له مع الآخرين وإعادة التجربة المريرة بعد الأخرى، والتخلص من دور الضحية.
المصادر
1- Holmes J. Attachment theory: a biological basis for Psychotherapy.Br J Psych 1993, 163: 430-8.
2- Rincon-Cortes M, Sullivan R. Early life Trauma and attachment: immediate and enduring effects on neurobehavioural and stress axis development. Frontiers in Endocrinology 2014. Published online.
3- Schore A. Attachment and regulation of the right brain. Attachment and Human Development 2010, 2: 23-47. Online Publication.
4- Bowlby J. The Bowlby – Ainsworth attachment theory. Published online by Cambridge University Press 19 May 2011.
5- Rasmussen P, Storebo O. Attachment and epigenetics; A scoping review of recent research and current knowledge. Psychological Reports 2020. Published online 2020.
6- Slade A & Holmes J. Attachment and psychotherapy. Current Opinion in Psychology 2019, 25: 152-156.
واقرأ أيضاً:
الطب النفساني عبر الخلية العصبون / اليقظة العقلية Mindfulness