الاكتئاب واحد من أشد الاضطرابات النفسانية التي يلاقي فيها المصاب صعوبة في التعامل مع مشاعره والتغلب على الاكتئاب الذي يعاني منه. يزور الاكتئاب ويستقر في عقل الإنسان، ويشعر بعدها المصاب به استمرارية الاكتئاب في داخله وكأنه لن يفارقه إلى الأبد. ما يزيد الطين بلة في الاكتئاب هو أن احتمال إصابة الإنسان به ترتفع بعد أول نوبة ومع كل زيارة متكررة يتضاعف هذا الشعور باستمرارية الاكتئاب وعدم القدرة على التخلص منه طوال العمر. الاكتئاب للإنسان الذي يعاني منه أشبه بسحابة تزحف ببطء ولا تتلاشى وكأن أشعة الشمس لا وجود لها.
التعامل مع الاكتئاب يتطلب أولا الدقة في تشخيصه وثانيا علاجه. رغم أن العقاقير المضادة للاكتئاب لها دورها الحيوي في علاجه، ولكن هناك الحاجة دوماً للدخول في علاج كلامي لتعزيز دفاع الإنسان ضد المشاعر الاكتئابية أولاً وتحصينه للدفاع عن كيانه ضد هذا الاضطراب حين يزوره في المستقبل مرة أخرى.
هناك استراتيجيات عدة للحديث مع الإنسان المصاب بالاكتئاب واختزالها أحياناً بعناوين باهرة مثل علاج سلوكي معرفي وديناميكي ويقظة واعية وغير ذلك لا يساعد المراجع ولا معالجه. يمكن تقسيم مثل هذه الأحاديث إلى عدة أجزاء:
الجزء الأول هو انخفاض الدافعية والتحفيز في الإنسان المكتئب. انخفاض الدافعية والتحفيز يربط الإنسان بشدة بحبل غليظ مع الاكتئاب وهو أحد الحواجز المانعة للشفاء ولا بد من تعطيله.
الجزء الثاني يتعلق بالتفكير المتصلب للإنسان المكتئب وتمسكه الصارم بمعتقدات سلبية. ما نعلمه بأن هناك أنماط تفكير ترسل الإنسان صوب الاكتئاب وفي نفس الوقت يتم تعزيزها في مرحلة الاكتئاب، وهناك الحاجة إلى التخلص منها لمنع تكرار الإصابة بالاكتئاب مستقبلا. هناك الحاجة إلى التحصن باستراتيجيات معينة للتغلب على أنماط التفكير السلبية ومنع المراجع من استيعابها في أعماق نفسه.
الجزء الثالث يتعلق بالحديث عن دور الصدمات في الاكتئاب. يدخل الإنسان المعرض للاكتتاب في حالة إغلاق تام واعتزال للآخرين مع تعرضه لصدمات نفسانية، وهناك الحاجة إلى تنشيط نفسه والتغلب على حالة الإغلاق وتجاوز الاعتزال.
الجزء الرابع يتعلق بدور الدماغ في الاكتئاب والحاجة إلى استيعاب المراجع ضرورة تنشيط دوائر دماغية تساعده في تجاوز الاكتئاب.
الجزء الخامس من أحاديث الاكتئاب يتعلق بالاتفاق على خطة مستقبلية لمنع الانتكاس مستقبلاً لأن الاكتئاب إن تميز بصفة فهي أنه اضطراب رديد يزور الفرد بين الحين والآخر.
مواجهة انخفاض الدافعية
الإنسان المكتئب يشعر دوماً بأنه كائن لا أهمية له ولا أحد يستطيع مساعدته وتم استنزاف طاقته وطموحه، ومصدر كل ذلك هو انخفاض الدافعية مع اضطراب الاكتئاب، وهو أشبه بحلقة مفرغة بين الاثنين: انخفاض الدافعية والشعور بالاكتئاب. يلعب انخفاض الدافعية وعدم القدرة على التحفيز دوره في عدم التزام المراجع بالعلاج سواء كان ذلك بالعقاقير أو العلاج الكلامي، وترى البعض منهم لا يبالي بزيارة طبيبه النفساني للمتابعة بعد الزيارة الأولى ويتوقف عن استعمال ما تم وصفه وكذلك الحال مع العلاج النفساني حيث ترى كثرة التوقف عن جلسات العلاج النفساني بعد بضع زيارات فقط. كذلك يلعب انخفاض الدافعية والتحفيز دوره السلبي في علاقة المراجع مع زوجه والعائلة وكثيراً ما يؤدي إلى نفاذ صبرهم معه وتوجيه كلام لاذع مثل عليك بالخروج من هذا الوضع بإرادتك أنت والتوقف عن جذب انتباه الآخرين وعطفهم.
انخفاض الدافعية والتحفيز طالما ما يؤدي إلى شعور الإنسان بالخزي والعار لأنه أصبح قليل الإنتاج وفائضا عن الحاجة. لذلك أحد الخطوات المهمة الأولية في العلاج النفساني هو فسح المجال للمراجع في الحديث عن هذه المشاعر.
الخطوة الثانية تتعلق بعدم قدرته على تحقيق أهداف معينة. يجب أن يكون رد فعل المعالج هو توجيه الحديث عن أهداف أخرى غير التي يتحدث عنها مراجعه مثل توجيه السؤال له: ما الذي تراه هدفاً يمكن تحقيقه وأطلب منك التركيز على ذلك لفترة قصيرة؟ فسح المجال للمراجع في التفكير وتوجيهه بعيداً عن الأهداف التي يراها مستحيلة التحقيق يساعده في الخروج من دوامة الاكتئاب وانعدام الدافعية والتحفيز. كثيراً ما يردد الإنسان المكتئب كلمة لا أستطيع عمل ذلك، ولكن لا فائدة من تحديه والقول كلا، بل تستطيع. بدلا من ذلك يجب توجيهه نحو ما يستطيع عمله.
أحد أعراض الاكتئاب ذات صلة بانخفاض الدافعية والتحفيز هي عدم القدرة على الشعور بالمتعة والرضا مع فعاليات الحياة اليومية، وعند الدخول في حلقة الاكتئاب المفرغة يشعر الإنسان بعدم وجود أي فعالية يمكن القيام بها لتغيير مشاعره. إحدى الاستراتيجيات الممكن استعمالها في العلاج النفساني هي تشجيع المراجع على التفكير وكتابة قائمة من الفعاليات والقضايا التي من الممكن أن تساعده على التخلص من هذه المشاعر السلبية. لا يمكن تحضير هذه القائمة مع جلسة واحدة أو اثنين وإنما فد تستغرق عدة جلسات. هناك الكثير من الأمثلة التي يمكن استعمالها مع المراجع وتنبيهه إليها فعلى سبيل المثال إن تَعثر على المراجع التفكير بالفعاليات والأمور الممتعة يمكن توجيه السؤال إليه عن الألوان التي يفضلها. هناك أيضاً الموسيقى أو الزهور أو الأغاني وغير ذلك كثير. الغاية من هذا الحديث هو تنبيه الإنسان بأن عدم الشعور بالمتعة ليس شاملاً كما يتصور، ولكن عليه السعي في البحث عن مصادر البهجة والسرور حتى وإن كانت صغيرة. من الممكن تسطير هذه الخطوات كالاتي:
١- إعداد قائمة بكل ما يمكن أن يكون مصدراً للمتعة
٢- خطوات صغيرة لفك حصار عدم الشعور بالمتعة مثل الحديث عن الألوان والزهور والموسيقى
٣- تنبيه المراجع بأن هناك تقلبات في درجة الشعور بالمتعة
٤- تشجيع المريض على القيام بفعاليات بسيطة، ولكن بصورة منتظمة.
يفقد الإنسان الذي يعاني من الاكتئاب القدرة على تغيير حاضره وكأن الحاضر لا معنى له، ولا ينظر إلا إلى سلبيات ماضيه حاجباً كل ما هو إيجابي وتصبح رواية حياته سلبية برمتها. تحدي المشاعر من قبل المعالج النفساني يجب أن يبدأ أولاً بقبول المراجع بأن ما يشعر به هو أمر لا يمكن رفضه، ولكن هناك الحاجة إلى مقاومته وعدم الاستسلام له، وما عليه القيام به هو فعاليات ونشاطات غير التي كان يمارسها بالأمس وإنما فعاليات جديدة قد تساعده على عدم الاستسلام للاكتئاب مهما كانت شدته.
ويتبع: العلاج الكلامي في الاكتئاب2
واقرأ أيضاً:
اليقظة العقلية Mindfulness / تعامل الدماغ مع التعلق والصدمات