الصدمة عابرة الأجيال Trans-Generational trauma
يتم توارث التقاليد والأعراف والمفاهيم وأحياناً المناصب في العائلات والمجموعات البشرية الجيل بعد الآخر. هناك أيضاً من يتحدث عن وراثة وصفات طعام في عائلة ومجموعة بشرية الجيل بعد الآخر. كذلك الحال مع الصدمات فآثارها يتم توارثها ضمن المجموعة من جيل إلى آخر وهذا ما يتم تعريفه بصدمة عابرة الأجيال.
عملية وراثة آثار الصدمة عملية معقدة ويمكن دراستها من خلال عوامل اجتماعية، وبيئية، ونفسانية، وبيولوجية. الذي يولد في مجموعة مصدومة يشعر بالألم الناتج عن الصدمة في مشاعر من هم حوله ويتفاعل معها. تستوطن الدفاعات النفسية المختلفة التي يستعملها الجيل المصدوم أعماق الجيل الجديد ويتم اللجوء إليها بصورة لا شعورية بين الحين والآخر. يراقب الإنسان الجديد سلوكيات الجيل المصدوم ويتقنها هو الآخر. من خلال ذلك يتم توطيد مفاهيم الجيل المصدوم في الجيل الجديد. ولكن هناك عوامل بيولوجية كذلك، فالصدمة بحد ذاتها تؤدي إلى تغيرات كيمائية بيولوجية في الإنسان المصدوم يصاحبها إفراز مواد كيمائية مرتبطة بالإجهاد. هذه المواد الكيماوية في المرأة الحامل تؤثر على الجنين ونمائه في المستقبل أثناء الحمل وبعد الولادة1. يتم تفسير ذلك أحياناً بتغير التخلق المتوالي Epigenetic Change وهذا يتم توارثه الجيل بعد الآخر. رغم أن التخلق المتوالي هو التفسير الأكثر شيوعاً في تفسير الصدمة عابرة الأجيال، ولكن هناك أدلة علمية تشير إلى تغيرات في الحمض النووي لجينات الإجهاد2 Stress Gene المعروفة بـ FKBP5. آثار الصدمة الاجتماعية والنفسانية والبيولوجية قد تضعف آثارها مع تحسين الظروف البيئية ودعم المجموعة المصدومة اقتصاديا ونفسانياً وحمايتها من صدمات جديدة. لكن تكرار الصدمات على فترات متقطعة لا يؤدي إلا إلى تركيز الآثار السلبية للصدمة لفترة طويلة للغاية.
الأعراض والنتائج
الصدمة في العلوم النفسانية هي رد فعل الإنسان للصدمة بيولوجياً ونفسانياً. نتائج رد الفعل البيولوجي والنفساني على مستوى الأجيال سلبياً، ولكن مع تقديم الدعم وحماية الجيل الجديد من صدمات جديدة فقد تكون النتائج إيجابية متمثلة بقوة الدفاعات النفسانية واكتساب مهارات حياة قوية متمثلة باستعمال التفكير الانتقادي، اتخاذ القرار الصائب وإدارة شئون الحياة بصورة سليمة. الآثار السلبية عموماً مع غياب الدعم تتمثل بمشاعر تدني القيمة الذاتية للمجموعة والفرد على حد سواء. يصاحب ذلك ارتفاع عمليات نفسانية تدفع الإنسان بالتفارق عن الواقع مع الشعور بخدر عاطفي. القلق والاكتئاب أعراض يكثر تكرارها في سيرة أعضاء الجيل المصدوم وما بعده وتمتد هذه الأعراض أحيانا إلى أعراض كرب تالي للصدمة. رغم أن الحديث عن آثار الصدمة كثير التركيز على الأعراض النفسانية، ولكن ما ندركه الآن هو أن آثار الصدمة تمتد إلى ضعف جهاز المناعة في الإنسان نفسه. ربما هذا ما بفسر شبه انقراض مجموعات بشرية قديمة كانت تستوطن العالم الجديد التي هاجرت إليه مجموعات بشرية من القارة الأوربية 3.
المجموعة العربية
تختلف المجموعة البشرية العربية عن غيرها من المجموعات البشرية على كوكب الأرض استيطانها لمساحة واسعة من الشرق القريب والشرق الأوسط. هناك ٢٢ قطراً عربيا تشترك في انتمائها إلى الجامعة العربية وتتحدث بلسان واحد ولها مفاهيم اجتماعية وتقاليد مشتركة بالإضافة إلى تاريخ مشترك. لكن هذه المجموعة العربية الكبيرة تتميز عن بقية المجموعات البشرية الكبيرة مثل الاتحاد الأوربي بعدم تضامنها والفوارق الاقتصادية الهائلة بين أعضائها رغم أن الاتحاد الأوروبي يتحدث بـ ٢٤ لغة والعالم العربي بلغة واحدة.
الصدمة التي تعرضت لها المجموعة الفلسطينية معروفة للجميع، ولكن الإنسان العربي (والمسلم كذلك) في تأزم مستمر مع الشعب الفلسطيني وقضيته. يمكن النظر إلى الشعب الفلسطيني مجموعة بشرية تعرضت لصدمة كارثية لا تختلف عن زلزال مدمر دمر منطقة ما. في الوقت الذي يقبل فيه الإنسان الزلزال كونه كارثة طبيعية، ولكنه في يومنا هذا يسقط اللوم على الدولة التي لم تستخدم العلم لضمان سلامة البناء وحماية السكان. لكن ما لا يقبل به الإنسان هو أن يتم تهجيره من أرضه واغتصاب حقه في العيش كبقية البشر. هذا ما حدث مع نكبة ١٩٤٨ ولعب العالم كله ومن ضمنه العالم العربي دوره في وقوع الكارثة التي لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً.
لو تفحصنا التاريخ الذي لا يجهله أحد سنرى بأن الصدمة التي أصابت شعب فلسطين تكررت المرة بعد الأخرى، وتم توارث آثار الصدمة الجيل بعد الآخر، وخاصة سكان غزة وتعدادهم يقارب مليونين ونصف يعيشون في شريط مجاور بالبحر المتوسط وكثافته السكانية تتصدر جميع مناطق العالم سوى أن لا دخول وخروج منه مع دول الجوار وخدمات الحياة الأساسية فيه في القاع الأسفل4. يمكن القول بأن قطاع غزة أكبر سجن في الهواء الطلق على سطح كوكب الأرض.
مرت الأيام وهناك جيل عربي جديد. الجيل العربي غير الفلسطيني لا يتذكر نكبات ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، و١٩٧٣ وما بعدها. ورث هذا الجيل الجديد مفاهيم خاطئة حول تبرير ضعفهم وفشلهم الحضاري والثقافي بأزمة فلسطين وهذا ما يفسر المناخ السياسي العربي الراهن. أما الشعب الفلسطيني الذي يعيش في غزة فلم يتوقف عن استلام الصدمات كل بضعة أعوام وتم ترسيخها عبر عوامل التخلق المتوالي وستنتقل من جيل إلى آخر.
أما مجموعة العالم الإسلامي غير العربي فهو الآخر يميل الآن إلى حمل علم فلسطين الملطخ بالدماء واستعماله من أجل الحصول على منافع سياسية لا علاقة لها بشعب فلسطين. أما المجموعة الأكبر على الكوكب المتمثلة بالأمم المتحدة والولايات المتحدة الامريكية فهي تتعامل مع قضية فلسطين عن طريق التخلص من التنافر المعرفي حول عقدة معاداة السامية إلى يومنا هذا.
راهن العرب والمسلمون والعالم أجمع بأن تنتهي قضية فلسطين بطريقة ما. لم ولن يحدث ذلك.
المصادر
1- Daskalakis N, Xu C, Bader H et al. Intergenerational trauma associated with expression alterations in glucocorticoid and immune related genes. Neuropsychopharmacology 2021; 46(4): 763-773.
2- Yehuda R, Daskalakis N, Bierer L et al. Holocu8ast exposure induced intergenerational effects on FKBP5 methylation. Biol Psychiatry 2016; 80(5): 372-380.
3- Brown-Rice K. Examining the theory of historical trauma among native Americans. TPC 2013; 3(3): 117-130.
4- AbuQamar M, Eltayyan D, Abuhaiba M. the impact of access to electricity on mental health in conflict-affected territories: an exploratory study in Gaza. International Journal of Social Psychiatry. Published online September 7, 2023.
واقرأ أيضاً:
اليقظة العقلية Mindfulness / تعامل الدماغ مع التعلق والصدمات