العقل يتبع القلب
• سنحاول في هذه الصفحات أن نفهم كيف يعمل دماغنا، وكيف تتحقق حريته أن يؤمن إن شاء، لأنه اختار أن يؤمن، أو أن يكفر إن شاء رغم وضوح الأدلة، لأنه لا يريد أن يؤمن.
• من أجل ذلك يستحق من آمن الثواب من رب العالمين، لأنه آمن دون أن يكون عقله مجبراً على الإيمان، ويستحق الكافر الذي بلغته دعوة الرسل العقاب، لأنه رفض الإيمان ولم تكن مشكلته قلة الأدلة.
• ما نسميه العقل إنما هو الجزء الواعي المفكر من أدمغتنا شاملاً ما حَوّلَه إلى عمليات عقلية لاشعورية، لكنها تبقى إرادية مع أننا لا نكاد نشعر بها أبداً، فأن تكون لاشعورية لا يعني أنها لا إرادية.
• هذا العقل المفكر المنطقي يصل إلى الحقائق بطريقتين: أولاً بإدراكها بالحواس كالبصر والسمع وغيرهما، حيث نحس أن ما تدركه حواسنا موجود حقاً، وثانياً يصل العقل إلى الحقائق بالطرق العقلية المنطقية، وأهمها الاستنتاج والاستقراء.
• إننا عندما نفكر ينعكس ذلك في العضلات المغلفة للرأس، ونحس أننا نفكر برؤوسنا، وعندما تنبثق العواطف في أدمغتنا منطلقة من اللاشعور فإنها تنعكس في عضلات الصدر وعضلة القلب، لذا ننسب العواطف دائماً لقلوبنا، وننسب الارتياح لأمر ما إلى صدورنا التي انشرحت به.
• ليس الإيمان والكفر مجرد اقتناع عقلي، بل هو قرار نتخذه بحسب ما في قلوبنا من المشاعر والأهواء، فنقرر أن نقتنع بالإيمان أو ألا نقتنع، وبما أن القرآن نزل ليخاطب كل البشر على اختلاف أعمارهم وثقافتهم، ولم ينزل كتاباً للفلاسفة والعلماء فقط، فإن ربنا في القرآن ونبينا صلى الله عليه وسلم في الأحاديث يعزوان أعمال العقل كلها للقلوب التي في الصدور، يقول تعالى: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ، وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [46]" الحج.
• وتأكيد أنها التي في الصدور مقصود منه ألا يأتي من يقول هي القلوب التي في الرؤوس، إذ الدماغ أيضاً عضو داخلي وحيوي ولغةً: "قلب النخلة لبُّها" هنالك تعمد وإصرار على مخاطبة القلوب لا العقول، القلب في القرآن هو عضو التفكير والشعور (قلوب يعقلون بها) وتهدف هذه المخاطبة للقلوب إلى إثارة الدافع النفسي للإيمان، فيكون الخطاب هادياً لأكبر عدد ممن يبلغهم بلاغاً مبيناً، وقد تنبه الباحثون في السنين الأخيرة إلى دور العواطف في تكوين معتقداتنا واتجاهاتنا وعدم انفراد المعارف بالأمر، وسأفصّل فيما يلي إن شاء الله ما أجملته هنا لكن من المفيد أن تعرفوا هذا الإجمال من الآن.
الاقتناع بالمرغوب
• يظن الكثيرون منا أن الإيمان والكفر مسألة اقتناع عقلي معرفي، فمن بلغته الأفكار التي تدل على أن الدين المعروض عليه حق آمن واتبع هذا الدين، ومن لم تبلغه المعطيات والأفكار والأدلة والبراهين البلاغ المبين لم يقتنع بالدين الذي ندعوه إليه وبقي كافراً. لو كان الأمر على هذا النحو فلن يكون من العدل تعذيب الكافر في جهنم لأنه كفر، طالما أن العلة والمشكلة هي عجز الأدلة المقدمة له عن إقناعه، ولو كانت أقوى لاقتنع وآمن. نعم لو قلت لك إن أربعة زائد أربعة يساوي ثمانية، هل يكون لعقلك حرية أن يقبل هذا الادعاء أو أن يرفضه؟ عقولنا مضطرة إلى التصديق بكثير من الأمور لأنها عاجزة عن إنكارها، أي الكفر بها، لكن الإيمان بالله تعالى ورسله ليس منها.
• هنالك بدهيات ومسلمات لا يختلف عليها البشر، بل يبنون عليها الكثير من الاستنتاجات اليقينية، التي لا يقدرون على إنكارها، حتى لو أرادوا، إلا إن كانوا مجانين وعقولهم فقدت المنطق السليم. وعقول البشر يصعب عليها كثيراً أن تكابر وتنكر شيئاً تراه بعيونها، فسهل ربنا عليها الإنكار إن هي شاءته عندما أرسل ملكين إلى بابل، يعلمان الناس السحر، ليقول من يريد أن ينكر حتى ما تراه عيناه، ما هذا إلى سحر ولا حقيقة له.
• ربنا خلقنا أحراراً حتى في أن نقتنع بالإيمان الذي يدعونا إليه الرسول أو بأي دعوة تعرض علينا وفي أن نأبى أن نقتنع.
• يمكن للإنسان أن إن يرفض الدخول في دين ما مع وجود القناعة العقلية أي هو بينه وبين نفسه يعرف أن هذا الدين حق لكنه يهدد مصالحه أو يحرمه من إشباع أهوائه، هذا في مقدورنا لأننا أحرار فيما نعمل، لكن الحرية التي منحنا الله إياها حرية حقيقية تتجاوز حرية الفعل الإرادي وتمكننا إن كنا لا نريد أن نؤمن بشيء أن نكون منيعين على كل ما يدعونا للإيمان بهذا الشيء فلا تقدر أية حجة على إجبار عقولنا على الاقتناع، ولا يقتصر رفضنا للأمر على مستوى السلوك الظاهري الواعي، بل رفضنا هذا يمكّننا من ألا نقتنع، وألا تكون هنالك قوة في الأرض تجعلنا نقتنع.
• لكن كيف ذلك؟
الاستقراء والاستنتاج
• عندما نفكر ونستدل بشيء على غيره يكون ذلك وفق استراتيجيتين رئيسيتين، الأولى الاستنتاج deduction والثانية الاستقراء induction.
• الاستنتاج هو استخلاص حقيقة من حقائق موجودة لدينا من قبل، وما نصل إليه بالاستنتاج لا تستطيع عقولنا أن تتخيل احتمالاً غيره، فإما أن تكون الحقائق التي عندنا ومنها استنتجنا الحقيقة الجديدة التي نبحث عنها صادقة، فيكون ما استنتجناه منها صادقاً، وإما أن تكون كاذبة أو خاطئة، فيكون ما استنتجناه منها خاطئاً أيضاً.
• أما في الاستقراء فإننا نبحث عن حقيقة نجهلها، بأن نستخلصها من عدة حقائق فردية عايناها ومررنا بها أو خَبِرناها، بينها تشابه في ناحية معينة يقوي الاعتقاد لدينا أن الحقيقة التي نحاول الوصول إليها شيء محتمل بدرجة ما، وكلما اقتربت درجة احتماله من المئة بالمئة كنا أقرب إلى اليقين بصحة ما وصلنا إليه.
• بالأمثلة تتوضح المفاهيم وسنبدأ بأمثلة الاستنتاج:
كل الأسماك تسبح في الماء، وبما أن القرش سمك، فإن القرش يسبح في الماء.
كل إنسان فانٍ، وبما أن سقراط إنسان، فإنه فانٍ.
يمتلك سعيد يدين اثنتين وفي كل يد خمسة أصابع، إذن يمتلك سعيد عشرة أصابع.
جعل الله من الماء كل شيء حي، وبما أن النمل كائن حي، إذن النمل يحتوي على الماء.
كل خمر حرام، وكل مسكر خمر، وبما أن النبيذ مسكر، إذن النبيذ خمر، وشربه حرام.
كل الفيلة حيوانات ثديية، وبما أن الحيوان الذي أحضره أبرهة لهدم الكعبة فيل، فإنه حيوان ثديي.
الصحابي هو المسلم الذي التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما أن عمار بن ياسر مسلم التقى به، فهو صحابي.
• نلاحظ في هذه الأمثلة كيف نستنتج معلومة جديدة نسميها في علم المنطق نتيجة، من حيثيات موجودة لدينا من قبل، نسميها مقدمات، ونسمي العملية العقلية التي قمنا بها ونحن نستنتج المعلومة الجديدة القياس syllogism.
• وفقهاؤنا القدامى كانوا ماهرين باستخدام القياس للوصول إلى أحكام فقهية لأمور لم يرد بها نص.
• وفي جميع حالات الاستنتاج تكون النتيجة التي نصل إليها ملزمة لعقولنا التي لا تستطيع أن تتصور نتيجة غيرها، ولذلك توصف نتائج الاستنتاج في علم المنطق بأنها ضرورية عقلاً.
• إن أي شيء نستدل عليه بطريق الاستنتاج تكون عقولنا مجبرة على تصديقه واعتقاده، ما لم نكن نعاني مرضاً عقلياً أفقدنا المنطق العقلي المشترك مع جميع بني البشر.
كل قضبان الحديد التي سخنتها زاد طولها وتمددت، لذا سيتمدد هذا القضيب الحديدي الذي يحمله مساعدي عندما نسخنه ونرفع درجة حرارته .
كل قضبان الحديد التي سخنتها أنا، والتي سخنها غيري كثيرون، تمددت بالحرارة، إذن الحديد كله يتمدد بالحرارة.
كل إنسان حي قلبه ينبض، إذن كل من توقف قلبه عن النبضان هو غير حي.
كل قطع النحاس التي مررت أنا أو مرر غيري فيها الكهرباء نقلت الكهرباء، إذن النحاس ناقل للكهرباء.
كل شيء مركب نلاحظه في حياتنا له صانع صنعه، إذن للكون خالق صنعه.
لم يسبق لمحمد صلى الله عليه وسلم أن كذب في حياته، إذن هو صادق في ادعائه النبوة.
• في الاستقراء ننطلق من حالات فردية لنستدل بها على وجود قانون طبيعي لا يتخلف -مثل تمدد الحديد بالحرارة-، فلا نتوقع أننا سنصادف قضيب حديد لا يتمدد بالحرارة.
• أو نستدل بالاستقراء على شيء لم نره بعد كيف سيكون، بناء على اضطراد حدوثه في جميع المرات السابقة على شكل معين، مثل شروق الشمس غداً من المشرق.
• نحن عادة نعتبر كل أمر استقرأناه من أمثلة عديدة جداً، وكان دائماً يقع على نحو معين، نعتبره مؤكداً أنه دائماً سيحدث بهذه الطريقة، لأننا كلنا مقتنعون أن هنالك نظاماً ثابتاً تحدث وفقه الأشياء المتماثلة في الطبيعة التي تشمل كل شيء ندركه.
• فنحن لا نتشكك في أن الحديد يتمدد بالحرارة، مع أنه من الناحية العقلية البحتة، لا شيء يضمن أن قطعة حديد معينة ستتمدد بالحرارة، حتى لو رأينا جميع قطع الحديد في الدنيا تتمدد، لأن عقولنا تتقبل أن نقول: وما المانع أن يكون هنالك حديد لا يتمدد بالحرارة؟ عقولنا مبرمجة على أن تبقى منفتحة لكل الاحتمالات الممكنة، ومهما بلغت درجة احتمال شيء معين، فإنه لا يصعب على عقولنا أن تتخيل احتمالاً آخر، لكننا في حياتنا اليومية كثيراً ما لا تكو لنا مصلحة في أن نتبع هذا التخيل الذي احتماله ضئيل جداً ونترك الاحتمال الغالب جداً.
• لقد علمتنا خبرات الحياة أن كل شيء احتمال حدوثه يقترب من مئة بالمئة سيتكرر دائماً وفق هذا الاحتمال. فمع أنه عقلياً لا شيء يثبت يقيناً أن لمس أسلاك كهربائية حية، يمر فيها تيار قوي جداً مميت للإنسان، فإننا نحتاط ونتصرف على أن هذا الخطر حقيقي، ولا نتجرأ أبداً على تحديه وتجربة الإمساك بأسلاك تمرر تياراً كهربائياً قوياً جداً دون عازل.
ويتبع>>>>>>: سيكلوجية الإيمان والكفر2
واقرأ أيضا:
القرين / حقيقة المس الشيطاني5