الكثير من البشر يشعر بالاستياء في مرحلة ما من حياته ويحاول تجاوزه لكي يمضي قدماً في حياته. ولكن هناك من الاستياء ما هو عميق وداكن ناتج عن تكرار تجربة مريرة ولا يستطيع الإنسان أن يفلت منه بسهولة. هذا الاستياء أحياناً يؤثر على قدرة الفرد على التواصل مع الآخرين وبناء العلاقات، ومن جهة أخرى نرى بأن بقية الناس يفشلون في التواصل مع الإنسان المستاء لأنهم يلتقون بجراح الفرد قبل أن يلتقوا بالإنسان الذي يحمل الجرح. آلام وندوب الإنسان المجروح تطوف على السطح بسرعة كبيرة وتشد انتباه الناس قبل أن تسنح لهم الفرصة للتعرف على الإنسان ذاته دون جراحه.
هذا ما يحدث مع المواطن العربي الفلسطيني الذي كثيراً ما يشعر بأن الناس لا تفهمه لأنهم حقاً لا يفهمونه ولا يفهمون قضيته. العالم بأسره لا يستطيع رؤية الفلسطيني وقضيته ربما لقلة صبر البشر عموماً أو ضعف البصيرة وعلى الأرجح كلاهما.
يستوطن الاستياء الإنسان، بل ويستعمره، وتبدأ عملية نفسانية معرفية يبحث من خلالها الإنسان عن الأخطاء التي ارتكبها، وهي عملية لا تتوقف بسهولة مع استعمار الاستياء للإنسان والشعور بالظلم. عملية التنقيب عن الأخطاء يصاحبها شعور بالغضب والذي يتحول تدريجياً إلى غضب متكرر، ولا يجد الإنسان المفر من الشعور بالعداء تجاه الآخرين، بل وحتى الشعور بالكراهية. جذور الاستياء عميقة ويجد الإنسان نفسه أسيراً لها ويصل إلى قناعة واحدة وهي أن من المستحيل انتشال نفسه منها.
هناك قواعد أساسية يجب علينا أن نستوعبها عند التعامل مع الاستياء:
١-من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالظلم مع تعرضه لسوء المعاملة الذي يستند على شروط بدائية حول مفهوم العدالة. رد فعل المظلوم مع الشعور بالاستياء لا يقتصر على الإنسان البشري فحسب، بل تراه في غاية الوضوح في مختلف الكائنات الحية إذا درستها في بيئتها الطبيعية أو المختبرات العلمية.
٢-الاستياء شعور شخصي بين الإنسان والآخرين. ليس هناك ما هو غير طبيعي أن نحكم علـى كيفية معاملة الآخرين لنا وكذلك أن نحكم على كيفية معاملتنا مقارنة بالآخرين، وهذا بدوره ينتهي بإصدار الفرد للأحكام حول تجربته الخاصة.
عملية الشعور بالاستياء عملية متأصلة في عمق كل إنسان وليست عملية شاذة يتم تجاوزها بسهولة لأنها عملية تطورية لعبت دورها في تعزيز التماسك القبلي للبشرية منذ أن كان أسلافنا يعيشون في مجموعات تصطاد وتقطف الثمار لكي تبقى على قيد الحياة.
٣-الحقيقة الأخرى التي يجب الانتباه إليها وهي في غاية الأهمية أن الشعور بالاستياء حاله حال جميع المشاعر مولد طاقة حيوية وليس شعوراً مرضياً يجب إدانة الإنسان الذي يشعر به. الشعور بالاستياء هو أشبه بطيف يبدأ برد فعل طبيعي وقتي لأحداث الحياة وينتهي في بعد مشحون بالطاقة قادرة على إحداث تغيير في الإنسان.
التعامل مع الاستياء في الصحة النفسانية
هناك العديد من الجوانب التي يتم دراستها والحديث عنها وأولها محتوى الشعور بالاستياء، وما هي العوامل التي تلعب دورها في تعديل الشعور بالاستياء. كذلك هناك الحاجة لأن ندرك العتبة التي يصل فيها الشعور بالاستياء إلى شعور وطاقة سامة تفتك بالإنسان نفسه وعلاقته مع الآخرين. ربما التعامل بأناقة مع الشعور بالاستياء على مستوى فردي أو عائلي أمر سهل، ولكنه أصعب بكثير مع تعرض الإنسان إلى مظالم ثقافية واجتماعية.
هناك قاعدة عامة لا يمكن إنكارها إن العامل الأكبر الذي يولد الاستياء هو الخيانة. حين يفتك زلزال بمدينة ما فإن هذا الانتهاك لحياة وحقوق الإنسان يولد شعورا بالاستياء، ولكن هذا الاستياء ليس مصدره الزلزال وإنما مصدره هو خيانة المسؤولين في الدولة الذين يقع على عاتقهم مراقبة سلامة البناء والاستجابة للكوارث ومد يد الدعم. لم يشعر الإنسان بالاستياء من الفيروس أيام الجائحة وإنما انصب استيائه على عدم كفاءة المسؤولين عن إدارة الخدمات الصحية الوقائية وتوفير الدعم الاجتماعي أيامها.
هذا هو الحال مع القضية الفلسطينية منذ عام ١٩٤٨ إلى الآن. هناك شعور دائم بخيانة الحكومات العربية المختلفة على مد السنين لقضية فلسطين والشعب الفلسطيني وهناك أيضاً خيانة المؤسسات العالمية المختلفة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها المنظمة الأكبر عقماً في تاريخ البشرية وهي منظمة الأمم المتحدة.
مع مرور الوقت يتحول الشعور بالاستياء إلى شعور وتفكير مزمن يتميز بكونه حصاري الإطار (وسواس). هذه الأفكار الحصارية تصبح مولد طاقة لشعور أعظم وهو الغضب. مع الغضب يولد خيال الانتقام وأحياناً يتحول الخيال إلى حقيقة يتم تنفيذها.
الغضب والاستياء
الإنسان الذي يشعر بالغضب لا يشعر بالأذى أو الخوف والذي يحصل أن الشعور الجديد يضع جانباً المشاعر الأخرى. بعبارة أخرى يشعر الإنسان الغاضب براحة كبيرة ويردد في داخل نفسه بأنه لا يشعر بالضعف ولا بعدم الأمان. يشعر الإنسان الغاضب بأنه رجل كبير قوي وليس بصغير ضعيف. الحقيقة أن هذه المشاعر ليست خالية من الفائدة وتساعد الإنسان أحياناً على التكيف مع الواقع الذي يعيشه. على سبيل المثال ترى الإنسان الذي يشعر بالنبذ والرفض في علاقة عاطفية فاشلة يصل إلى مرحلة من الشعور بالضعف والأذى الذي يشل حركته، ولكن الغضب يولد طاقة تساعده على المضي قدماً وتراه يحذف كل صور من كان يحبه ويقرر الخروج من عزلته إلى عالم جديد.
الغضب شعور من الأفضل عدم إنكاره من قبل الفرد أو مع من يتصل معهم، لأن عدم الاعتراف بالغضب بشكل كامل تراه يظهر في إطارات أخرى. في مجال العلوم النفسانية ترى الغضب المكبوت الذي لا يدركه الإنسان في وعيه يظهر في زلات كلامه وفي سلوكيات عدوانية سلبية. كذلك ترى الغضب أحد مولدات القلق حين يدرك وعي الإنسان بأن الغضب الذي لا طاقة لنا به يحاول الصعود من عالم اللاوعي إلى الوعي. كثيراً أيضاً ما ترى الإنسان يمارس عملية إزاحة القلق غير المعبر عنه إلى شيء آخر، فحين لا تستطيع التعبير عن غضبك صوب مدير عملك تصب غضبك تجاه زوجك.
عدم الاعتراف بالغضب في وعي الإنسان يؤدي إلى شعور دائم بالتوتر وهناك الحاجة أحياناً للسماح لمشاعر الغضب أن تتدفق من خلال ممارسات تأملية وليس التنفيس عنه. ترى الإنسان الذي يجلس لوحده وبصمت دائم دون أن يتحرك ويسمح بموجات الغضب تتدفق عليه فبعدها يشعر بالتحرر الدائم. لكن الإنسان الذي يستعمره الاستياء بصورة مزمنة ربما هو في الحقيقة غير قادر على التمسك بنفس الشدة بمشاعر الغضب. الإنسان بحاجة إلى الاتصال ليس مع مشاعر الاستياء فقط وإنما الشعور بالغضب الناتج عنه.
الشعور بالغضب كذلك يحجب الشعور بالامتنان إذا فشلت مبادرات الآخرين في سد احتياجات المستاء الناقصة والذي يشعر بالغضب كذلك. عند ذاك يبحث الإنسان عن حليف له يشاركه ويشعر هو الآخر باستياء وغضب، ولكن هذا التحالف لا يساعد كثيراً لأن الطرفان يعانيان من نقاط ضعف مصدرها الشعور بالاستياء والغضب.
الغضب عملية دفاعية ويختلف في تأثيره على إنسان دون آخر. كذلك التمسك بالغضب له تكاليفه ويشعل ناراً في داخل الإنسان لا يستطيع إطفائها بسهولة. لكن في الأساس حين يُصاب الإنسان بجرح لا يستطيع التخلص منه والجرح الأشد هو الشعور بالأذى وسوء المعاملة والظلم. لا مفر من أن نتحمل في عقلنا الواعي ما نشعر به حقاً وعدم دفعه بعيداً أو الشعور بالغضب كوسيلة للتخلص من الشعور المؤلم بالضعف.
في الكثير من الأحيان يحزن البشر على ما فقدوه أو لم يمتلكوه أبداً، وما يزيد الحزن حزناً حين لا يعترف الآخرون بالطرق التي تعرض فيها الإنسان للظلم وعدم احترامه والتغاضي عن حقوقه. تنتهي هذه المشاعر في مكان عميق داخل الإنسان حين يكون الحرمان من المودة والموارد من عمر مبكر وطوال العمر ولا يعترف الآخرون به وهذا ما حدث ويحدث للمواطن الفلسطيني إلى يومنا هذا.
ما حدث في فلسطين وما حدث في غزة مؤخراً يكاد يكون مثالاً لتعامل الناس مع الإنسان المستاء نتيجة انتهاكات تمت مشاهدتها والاعتراف بها. هناك تعاطف أولي لأسباب ثقافية وحضارية، ولكن بعد فترة تلاحظ فتور الآخرين ويتم حسم أي تنافر معرفي مع وضع المواطن الفلسطيني في إطار إنسان ضعيف وكذلك سريع الانفعال. بعد ذلك تزداد قائمة المجموعات البشرية التي لا تبالي بحقوقه ويدرك بأن لا أحد يهتم به إن كان يشعر بآلام وهي في قضيته آلام مزمنة.
والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكننا أن نتعامل بصورة واقعية مع مظالمنا ومظالم الآخرين ونستمع إلى المظلوم ونتوخى الحذر حول ميلنا إلى الشعور بالاستياء والفشل في بناء قضية عادلة. جميعنا في داخله جهاز عصبي تم تصميمه من خلال تجاربنا السلبية وفي مقدمتها التجربة الفلسطينية.
واقرأ أيضا:
علاج القبول والالتزام والصحة النفسانية الحاضرة2 / المستحضرات الطبيعية وعلاج الاضطرابات الطبنفسانية