سيكلوجية الإيمان والكفر3
الإيمان والانتماء
• نعود إلى الإيمان والكفر والاختلاف ودور النفس وأهوائها فيها.
• في القرآن الكريم آيات عديدة ترينا كيف أن الإيمان أو الكفر ليسا وليدي القناعة، لأننا إن أردنا ألا نقتنع، فلن يقنعنا شيء، ويتجلى ذلك في اختبار القابلية للهداية الذي طبقه سليمان على بلقيس، وكذلك في مواجهة إبراهيم لقومه الذين آمنوا بآلهة مزيفة من أجل المودة بينهم، أي الانتماء، وفي بيان ربنا أن الناس يؤمنون بآلهة لا وجود لها ليكون لهم فيها العزة لأنها توحدهم وتجسد انتماءهم بعضهم لبعض، وكل هذا يختفي عندما يواجهون خطر الموت فيَدعون الله مخلصين له الدين.
اختبار القابلية للهداية
• قبلت بلقيس دعوة سليمان لتزوره في القدس، وبينما هي في طريقها إليه قال سليمان لأعوانه: من يأتيني بعرشها؟ أي من اليمن إلى القدس. فقام الذي عنده علم من الكتاب بإحضار عرشها في طرفة عين.
• وعندما وصلت بلقيس أراد سليمان الحكيم أن يختبرها، ليعلم هل هي من الذين يهتدون للحق ولا يستجيبون لأهوائهم التي تدفعهم إلى أن ينحازوا إلى الاحتمال الضئيل المتخيل ليتهربوا من الحق، فقال سليمان لمن عنده: نكّروا لها عرشها لننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون.
• لم يكن سليمان وهو الحكيم يريد اختبار ذاكرتها، وهل كان يشك أحد في أنها ستعرف عرشها عندما يعرض عليها، وبخاصة أن أكثر شيئين كان الملوك يهتمون بهما التاج والعرش؟ كان سليمان يريد معرفة هل الكبرياء ستجعلها تنكر الحق فتكذب، أم إنها متحررة من الكبرياء، وقيمتها عند نفسها ليست قائمة على الأشياء التي تملكها، وبالتالي ستقر بأن هذا العرش الموضوع في أحد أركان قصر سليمان وكأنه زائد عن الحاجة، هو مماثل لعرشها.
• كان مثل هذا الاعتراف مستحيلاً على ملك يكابر وينكر الحق، لأنه في ذلك الزمان، حيث تفصل سليمان عن بلاد بلقيس مسيرة شهور، ما كانت بلقيس لتتخيل أن سليمان قادر على إحضار عرشها إلى قصره أو على معرفة شيء عنه، وكانت ستكذب وتدعي أن هذا العرش المعروض أمامها لا شيء مقارنة بعرشها الذي ليس له مثيل عند ملك من الملوك، لكن بلقيس الإنسانة السوية، التي لا تسمح للكبرياء أن تعميها عن الحق، قالت على الفور ودون تردد عندما عُرض عليها العرش وقيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، فتبين لسليمان أنها تهتدي، وأنها ليست من المكابرين المتبعين لأهوائهم فلا يهتدون.
• دعاها سليمان للإسلام لكنها لم تستجب، لا لأن ما دعاها إليه لم يكن مقنعاً لها، بل لقد صدها ما كانت تعبد هي وقومها، وأنها لم تكن تريد أن تفترق عنهم وتخرج منهم عندما تكفر بآلهتهم وتؤمن بالله الذي دعاها سليمان إليه.
• وكان لبلقيس جولة في قصور سليمان، وأدخلوها مكانا بدا لها لجة ماء، فشمرت عن ساقيها حتى لا يبتل ثوبها، فقال لها سليمان إنه لا داعي لذلك، لأن الماء الذي تراه لم يكن ماء حقيقياً، بل كان عملاً فنياً وصرحاً ممرداً من زجاج، وفي هذه اللحظة أسلمت بلقيس مع سليمان لرب العالمين.
• لنقرأ حكايتها: "قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)" النمل.
• والسؤال هنا: ما علاقة الصرح الممرد من قوارير بصحة ما دعاها سليمان إليه أو كذبه وزيفه؟ لم يكن الأمر أمر معجزة من معجزات الرسل التي تتجاوز القوانين الطبيعية لتثبت للناس أن هذا الرسول على اتصال بمن هو فوق قوانين الطبيعة وقادر على أن يغير طبائع الأشياء متى شاء، بل كان مجرد بناء مصقول من زجاج، كان تحفة معمارية لا أكثر.
• كيف جعلها الصرح تدخل في الإسلام من فورها؟ كان الذي صدها عن الإسلام أنها كانت من قوم يعبدون غير الله، وكانت حريصة على أن تبقى واحدة منهم، وبخاصة أنها كانت ملكتهم، لكن عندما رأت أن تفوق سليمان الحضاري بلغ حداً لم تكن تتصوره، قررت أن تستغني عن قومها وأن تنضم إلى سليمان تعبد الله الذي خلقها معه، ولننتبه لقولها (مع سليمان).
• لقد تغلبت رغبتها في الالتحاق بسليمان على حرصها على بقائها في قومها، فعادت لتأخذ باعتبارها الاحتمال الأكبر الذي كانت تؤيده الأدلة أن سليمان على الحق، وأزاحت من عقلها ذلك الاحتمال الضئيل الذي يستطيع عقلها أن يفترضه ويتخيله في أية قضية لم تجبره الحواس على التصديق بها، ولم يصل إليها عن طريق الاستنتاج الذي يضطر العقل إلى الإيمان بما نتج عنه اضطراراً شاء أم أبى، لأنه لا يستطيع إنكار النتيجة إلا إن كان مستعداً لأن يقال عنه مجنون.
الانتمــاء والعــزة
يروي لنا ربنا ما جرى بين إبراهيم عليه السلام وقومه فيقول تعالى: "وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25)" العنكبوت. أي أنهم كانوا يعبدون الأوثان لأن عبادتهم لها تشكل رابطاً يجمعهم، مما يشبع لديهم الحاجة إلى الانتماء إلى قومهم. وتؤكد الآية التالية دافع الانتماء الذي يجعل الناس يؤمنون بما هو غير مقنع على الإطلاق، لأن انتماءهم وارتباطهم بقومهم يجعلهم أعزة.
• قال تعالى: "وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً (82)" مريم.
• عندما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه على قريش وفتحوا مكة، صار العرب المترددون يدخلون في دين الله أفواجاً، كان دخولهم في دين الله صادقاً ولم يكن نفاقاً، وهذا ما تقوله سورة النصر: "إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)" النصر.
• ومرة أخرى نرى أن الإيمان ليس مجرد اقتناع، بل هو موقف واتجاه attitude فيه القناعة العقلية والمشاعر القلبية والسلوك الناتج عنهما.
الرجوع إلى الحق
• يخبرنا ربنا في القرآن عن الكفار المعاندين كيف يدعون الله مخلصين له الدين، أي مؤمنين إيماناً صادقاً، عندما يتعرضون للخطر، ولا يبقى لهم مُنْجٍ إلا الله.
• قال تعالى: "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23)" يونس.
• وفي هذا المعنى تُروى حكاية عن رابعة العدويَّة أن أحدهم قال لها: "إن فلاناً أقام ألف دليل على وجود الله"، فضحكت وقالت: "دليل واحد يكفي" قيل: "ما هو؟"، قالت: "لو كنتَ ماشياً وحدك فـي الصحراء، وزلّت قدمك فسقطت فـي بئر، لم تستطع الخروج منها، فماذا تصنـع؟" قال: "أنادي يا (الله)"، قالت: "ذاك هو الدليل، إن لم يكن موجوداً فلم تناديه؟". وكذلك روي أن فخر الدين الرازي كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له كثر فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: "من هذا؟" قالوا: "هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى" قالت العجوز: "أفي الله شك؟.."
• وصدق الله إذ يقول: "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10)" إبراهيم.
• أي إن كل البشر يدركون في أعماق نفوسهم أن الله موجود، لكن الأهواء تدفعهم إلى الجحود والإنكار، وعندما يقعون في خطر وجودي يتهدد حياتهم تختفي تلك الأهواء ولا يبقى منها شيء يصدهم عن الإيمان، فيؤمنون بإخلاص، وما أن ينجيهم الله ويستشعروا الأمان، حتى تعود إليهم أهواؤهم وينتكسون إلى الكفر والعصيان.
ويتبع>>>>>>: سيكلوجية الإيمان والكفر5
واقرأ أيضا:
توصيات مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب/ العلاج بالقرآن.. شبهات وردود(4)