الجرح غير الرضح ومن يُصاب بجرح ما فهو ينتظر التئام الجرح وشفائه منه. هذا ما يحدث مع الجروح الجسدية التي ينتبه إليها المصاب وينتبه إليها الآخرون. كذلك الحال مع الجرح العاطفي فهو جرح يشفيه الزمان وتقلب الأحوال وأحداث المستقبل. أما الرضح فهو غير ذلك فالشفاء منه لا يعني سوى التكيف معه والمضي قدماً لمواجهة الحياة وتحدياتها. الرضح قد يكون حاداً ويترك آثاره في الإنسان البشري أو قد يكون مركبا حيث يتميز بتجارب عدة متكررة يشعر من خلالها الإنسان بعدم القدرة على الإفلات منها.
التعريف أعلاه للجرح والرضح لا يخفي على أحد، وإن تابعنا القضية الفلسطينية منذ عام ١٩٤٨ إلى يومنا هذا استنتجنا بأن ليس هناك جرحٌ فلسطيني سيتم الشفاء منه وإنما هناك رضحٌ حادٌ بين آونة وأخرى ورضحٌ مركب وخاصة في حرب غزة الأخيرة التي لا تزال قائمة. لا يوجد من يمد العون إلى سكان غزة والمواطن العربي يجد نفسه عاجزاً يتفرج على صدمات الشعب الفلسطيني ولا يوجد حقاً من يستطيع إنقاذ الأبرياء من نيران أسلحة وظيفتها الأولى والأخيرة الفتك بالبشر. من هنا نلاحظ كيف أن هناك رضحاً حاداً ومركباً في نفس الوقت عند التمعن فيما حدث في فلسطين عبر التاريخ وما يزال يحدث في غزة منذ ثلاثة أشهر.
مفهوم الجرح الروحي
مفهوم الجرح الروحي ليس بالحديث، والجرح الروحي حاله حال أي جرح آخر يتماثل للشفاء ويصل الإنسان إلى مرحلة الشفاء مع الشعور بالأمان والغفران. أول إشارة تاريخية لمفهوم الجرح الروحي هي في إلياذة هومر مع الحديث عن معضلة أخيل وجرحه الروحي وربما صورت لنا آلام الجرح الروحي الشاعرة لويز كلك في عام ١٩٨٥ حين تتحدث عن أخيل في قصيدتها وتقول:
كيف يمكن لك أن تفهمني؟
وأنت لا تقوى على تفهم نفسك
قوة ذاكرتك ليس كافية
ولا تعود إلى الوراء ما فيه الكفاية
كذلك تم تصوير الجرح الروحي في العديد من الكتب المقدسة حين تروي التوراة لنا قصة لوط وإبراهيم عليهما السلام وتراه في غاية الروعة والوضوح في القرآن الكريم مع الحديث عن الرسول الكريم عند فتح مكة المكرمة.
حين نتفحص القصيدة أعلاه نرى اليوم بأن الكثير من العرب لا يفهمون القضية الفلسطينية ولا يستوعبون ما يحدث لأن ذاكرتهم ليست بالقوية ولا تعود إلى الوراء بما فيه الكفاية.
بعد هذه المقدمة يمكننا الاستنتاج بأن الجرح الفلسطيني ليس بجرحٍ سيلتأم وإنما رضحٌ مزمنٌ مركب.
من الجرح إلى الرضح
لكي نفهم الجرح علينا أولا أن نفهم وجود الإنسان في المجتمع. الإنسان لا يوجد بمفرده وحتى إن كان معتزلا الآخرين فهو يخضع لإمرة وكالات متعددة. هناك وكالات العمل، والدولة، والتشريعات والعقيدة الدينية، وهذه العلاقة بين الوكالة والخاضع لها تلعب دورها في بناء رواية الإنسان الذاتية الخاصة به. لو تفحصنا جيداً المواطن الفلسطيني فستراه خاضعاً لوكالات أكثر بكثير من المواطن العربي غير الفلسطيني، فهناك الأمم المتحدة وإغاثة اللاجئين والجامعة العربية وبالإضافة لذلك لا توجد دولة بكل معنى الكلمة التي تملك كياناً مستقلاً تتحدث نيابة عنه.
الجرح الروحي من مفهوم نفساني بحت ينتج من جراء تجربة شخصية تتناقض مع القواعد التي يتمسك بها الإنسان في أعماق ذاته. هذا التناقض مع التجربة يؤدي إلى تنافر معرفي وينتج عن ذلك جرح روحي. لو تفحصنا تاريخ القضية الفلسطينية ونزوح الشعب الفلسطيني من أرضه لعجزنا عن إحصاء تلك التجارب التي تتناقض مع القواعد النفسانية المثبتة في أعماق الذات البشرية.
بعد ذلك تبدأ مرحلة أخرى في حياة الإنسان الذي تم جرحه روحياً والبداية تفكك روايته الشخصية وسعيه للبحث عن رواية شخصية بديلة. لكن الذي يحدث أحيانا هو تكرار التجربة وتدريجيا تتراكم التجارب والنتيجة رضحٌ له تأثيرات بيولوجية بالإضافة إلى تأثيرات اجتماعية نفسانية يتم توارثها من جيل إلى آخر.
يقودنا ذلك إلى تعريف الرضح الروحي وتمييزه عن الجرح الروحي ويمكن القول بأن الرضح الروحي هو التأثيرات الدائمة النفسانية والبيولوجية والروحانية والسلوكية والاجتماعية، من جراء التعرض لانتهاكات وتجاوزات تتناقض مع التوقعات والمعتقدات الشخصية للفرد.
معالجة الجرح الروحي
يكثر الحديث عن الجروح العاطفية ووضعها في إطار اضطراب كرب تالي للرضح والذي يشير إليه الكثير بأحرفه اللاتينية PTSD ولكن الحقيقة بأن اضطراب كرب تالي للرضح لا علاقة له بالرضح الروحي. كرب تالي للرضح يستند كلياً على مشاعر الخوف في حين أن الرضح الروحي لا يستند إلى الخوف وإنما تتأجج فيه مشاعر لا يقوى الإنسان على تحملها مثل الشعور بالهوان والخزي والعار والغضب الذي ينتج عن شعوره المزمن بالاستياء. يتم تعريف كرب تالي للرضح كاضطراب نفساني يخضع لتوجيهات تشخيصية وعلاجية في حين أن الرضح الروحي لا يتم تعريفه كاضطراب نفساني. يحتاج علاج كرب تالي للرضح إلى تعرض الإنسان مجدداً بصورة غير مباشرة لذكريات الصدمة التي تعرض لها وبالتالي إبطال مفعولها وتأثيرها على الإنسان. أما الجرح الروحي والرضح الروحي فهو بحد ذاته انتهاك لبـؤرة المعتقدات الشخصية للإنسان وبالتالي فإن التعرض للحدث ومراجعة سجل الذكريات لا يساعد وإنما قد يؤدي إلى مضاعفة الشعور بالألم.
تشير المراجع التي تتحدث عن الجرح الروحي لأعراض يتم حصرها كالآتي:
١- تغيرات سلوكية
٢- تغيرات أخلاقية
٣- تغيرات إيمانية
٤- فقدان الإيمان الروحي
٥-الشعور بالذنب
٦-الشعور بالخزي والعار
٧- فقدان القدرة على الشعور بالمتعة
٨-انزعاج وجداني
٩- فقدان الثقة بالآخرين.
يمكن تعميم هذه الأعراض على الرضح الروحي كذلك ويمكن أن نتصور ولادة التطرف والعنف والصراعات بين أفراد المجموعة. لكن تطبيب مثل هذه التغيرات عملية عقيمة لا خير فيها لأن الجرح الروحي والرضح الروحي هو بحد ذاته رد فعل طبيعي لدرجة عالية من التطرف والقسوة. هذا ما حدث ويحدث إلى يومنا هذا في فلسطين لأن ما تعرض ويتعرض له المواطن الفلسطيني تجاوز حدود المعقول من التطرف والقسوة.
تجاوز الجرح الروحي غالبا ما يتم عند الوصول إلى عتبة العفو والمغفرة، ولكن خط نهاية مثل هذا لا وجود له إلى الآن في القضية الفلسطينية. هناك الدعم المادي والاجتماعي والمعنوي الذي يمكن تقديمه، ولكن هذا بحد ذاته نتائجه غير دائمية. الكثير يشير إلى أن خير وسيلة لتجاوز الجرح والرضح الروحي هو التضامن مع مجموعات أخرى ووضع التجربة في إطار جديد. المجموعة المتوفرة للشعب الفلسطيني تتمثل في الأمم العربية المنتمية إلى الجامعة العربية والتي تتحدث بلسان واحد وهو اللسان العربي. هذه المجموعة العربية لم تثبت وجودها في الماضي القريب والبعيد بأنها قادرة على معالجة الرضح الروحي في أعماق المواطن الفلسطيني، بل وحتى المواطن العربي، وهناك درجة عالية من فقدان الثقة بين الطرفين، لكن ذلك لا يمنع من توقف مثل هذا الدعم.
في نهاية الأمر ما علينا أن ندركه هو أن بداية التخلص من الرضح الروحي هو قيام دولة فلسطينية على أرض ينتمي إليها المواطن الفلسطيني ويساندها كل مواطن عربي.
واقرأ أيضا:
الاستياء الداكن والقضية الفلسطينية / المستحضرات الطبيعية وعلاج الاضطرابات الطبنفسانية