سيكلوجية الإيمان والكفر5
خلاصة القول إن سبب كفر المعاندين ليس معرفياً وليس نقصاً في الأدلة التي بلغتهم، ولا إخفاق الآيات التي جعلها الله في الأنفس والآفاق وأرسل الرسل بها، لذلك لن يقبل منهم أي تحجج بعدم كفاية الأدلة يوم القيامة، فالله يقول: إنه طالما كانت هذه الأدلة كافية لغيرهم ليهتدوا بها، فإن ضلال هؤلاء كان من أنفسهم وباختيارهم ويحملون مسؤوليته وسيعاقبون عليه.
• فقال تعالى: "وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)" الشورى.
• لقد اطلع المسلمون على الفلسفة اليونانية، وأتقنوا المنطق الأرسطي، وصاروا ماهرين جداً في القياس العقلي وفي جميع أشكال الاستنتاج، وكلها تفيد علماً اضطرارياً لا يستطيع العقل إلا أن يقبل به، فطالما كانت المقدمات صحيحة، فلا مجال لأي درجة من الشك في صحة النتيجة.
• وقد بذل المسلمون وسعهم في توظيف هذا الفن العقلي لإثبات صحة الحقائق الدينية، ولإقناع الناس بها ورد التشكيكات فيها، كما وظفوه في خدمة اللغة العربية وتطوير علم النحو الذي كان شكلاً لغوياً من المنطق. فنتج عن ذلك الجهد الجبار إضافة لعلم النحو علمٌ آخر أسموه علم الكلام، كله براهين وردود، لإثبات صحة ما تعتقده كل فرقة من فرق المسلمين، والجميع يشترك بالبراهين على وجود الخالق وصدق رسالة صلى الله عليه وسلم.
• لم ينجح علم الكلام في المهمة التي من أجلها أنشئ، ولم تنجح جهود الفلاسفة الأوربيين الذين جاؤوا بعد انتقال التقدم الثقافي من العالم الإسلامي إليهم والذين كانوا يؤمنون بالله، لم تنجح براهينهم العقلية في إثبات وجود الخالق إثباتاً ملزماً للعقول بحيث لا تستطيع التشكك فيه أو تفنيده وإثبات عكسه.
• الجميع حاولوا أن يثبتوا بالبرهان العقلي الاستنتاجي قضية عقلية لا ينفع فيها إلا الاستقراء، ولا ينجح الاستقراء في إقناع الناس بها ما لم يكونوا راغبين بها، وليس لديهم أهواء تجعلهم يجحدونها ويكفرون بها، هم لم ينجحوا بينما نجح القرآن الكريم في ذلك كله، بقليل من الأدلة العقلية التي نجدها في آية هنا وآية هناك.
• القرآن لم يجعل اعتماده في إقناع الناس بوحدانية الله ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم على الأدلة العقلية الكثيرة، بل كان القليل منها كافياً، لأن الأدلة لم تقدم للعقل من دون شيء معها، بل رافقها خطاب موجه للقلوب يخوفها ويرغبها، ليخلق فيها الدافع النفسي لتقبل الحق وعدم المكابرة وخداع النفس باختيار الاحتمال الذي يبقى العقل قادراً على تصوره رغم عدم وجاهته.
• ولنتأمل بعض النصوص القرآنية، لنرى كيف خاطب القرآن القلوب وحرك مشاعرها ودوافعها أكثر بكثير من مخاطبته للعقول القائمة على المنطق المجرد من العواطف.
• ولنأخذ هذه الآيات الكريمة من سورة عبس كمثال على ما بيناه من منهجية القرآن في مخاطبة القلوب مع العقول. يقول تعالى: "قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (30) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)" عبس.
• انظروا إلى الأدلة المتعددة التي توردها الآيات ثم تتبعها بترهيب وترغيب، ترهيب من موقف مرعب يوم القيامة حين يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.. ثم يتلوه الترغيب بذكر سعادة المؤمنين واستبشارهم في الموقف الرهيب ذاته، بينما الكفرة الفجرة وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة. تعرض الحقائق الإيمانية والأدلة العقلية الاستقرائية ممزوجة بما يرفع الدافعية لدى المتلقي لأن يتجرد عن الهوى ويأخذ الأمر بجدية، فلا يخدع نفسه ولا ينكر الحق وهو يعلمه.
• يتباهى الملحدون بأنهم هم العلميون ونحن الخرافيون، وهم لا يعلمون أو لا يريدون أن يعلموا أننا نستدل على الخالق وعلى صحة رسالته بطريقة أكثر علمية من طريقتهم في إنكاره.
• إن العلوم جميعها باستثناء الرياضيات تقوم على الاستقراء، أما الرياضيات فعلى الاستنتاج. أي جميع العلوم تقوم على الاحتمالات وغلبة الظن، ولم تتقدم البشرية إلا عندما تحررت من أسر الفلسفة الاستنتاجية وانطلقت تستقرئ الكون والطبيعة، لتكتشف القوانين التي تحكمهما، ولتنجح في تسخيرهما لخيرها وخدمتها.
• الأوربيون ينسبون الفضل إلى "بيكُن" على أنه أول من لفت الأنظار لأهمية الاستقراء، لكنهم يجهلون أنهم مع البشرية كلها مدينون للقرآن الكريم الذي شجع مراراً على استقراء الآيات في الأنفس والآفاق ليتبين لنا أنه الحق. ويتناسون أن الاستقراء كان دائماً الطريقة العقلية للاستدلال التي يتبعها كل البشر منذ آدم في حياتهم اليومية، وإن كانوا لم يسموها باسم مميز لها. لقد حاول محمد باقر الصدر رحمه الله في كتابه "الأسس المنطقية للاستقراء" أن يتغلب بالرياضيات المعقدة جداً على ذرة الشك التي تبقى مهما عظم احتمال وجود الله، وحاول رحمه الله أن يصل بالاحتمال إلى مئة بالمئة عن طريق معادلات رياضية استغرقت عشرات الصفحات.
• لقد فاته رحمه الله أن ذرة الشك هذه مقصودة ممن خلقنا وبرمج عقولنا، لنقوم نحن بتجاوزها بقلوبنا تجاوزاً متعمداً، فلا نلقِ بالاً لذرة الشك العقلي، إنما نؤمن بالحق الذي جاءنا من ربنا، تماماً كما لو أننا وصلنا إليه بالاستنتاج الرياضي أو غير الرياضي.
• إن هذه القفزة فوق ذرة الشك المتأصلة في تكوين العقل الإنساني عندما يقوم بالاستقراء، هي الإيمان الذي نستحق عليه الأجر من الله. ولو لم توجد ذرة الشك العقلي هذه، ما كان لنا فضل في إيماننا، وما كنا نستحق من الله الشكر عليه والأجر.
خــداع النفـــس والاهتــداء
• والسؤال الحاسم هو كيف نعرف إن كنا نخدع أنفسنا بخصوص قضية ما، أم نحن نقر بالحق ونكون بذلك مهتدين؟ هذه من المعضلات التي بحثها علم النفس المعرفي المعاصر، وحلها بسيط وبدهي.
• عندما يكون هنالك احتمالان متناقضان مثل: هل للكون والأحياء خالق أم هم ولدوا بالصدفة المحضة؟ فإن من يأخذ بالاحتمال الأقوى هو المهتدي، أما من يتمسك باحتمال ضئيل وعلى أساسه ينكر ما تقوم الدلائل على أنه الحق، فهو الخادع لنفسه الرافض للهداية التي تقتضيها البداهة البشرية Common sense التي يقوم عليها تفكيرنا في كل شيء نستقرئه في حياتنا اليومية.
• الخادع لنفسه يتبنى ما يثبت العقل والعلم أنه على الأغلب الأغلب باطل، وينكر ما احتمال صحته يقترب من مئة بالمئة.
• عندما تكون احتمالية صحة الأمر أو عدم صحته متقاربتين وتكادان تكونان خمسين بالمئة لكل منهما، في هذه الحال يصعب علينا تمييز الاهتداء عن خداع النفس، لكن خلافنا مع الملحدين ليس من هذا النوع، حيث الاحتمال العقلي أن الحياة ولدت صدفة، وتطورت وارتقت بمزيد من الصدفة المحضة لتبلغ ذروتها في الإحكام والإتقان والروعة التي خلق بها الإنسان، احتمال ذلك وارد من الناحية العقلية لأن العقل البشري قادر على تخيّله، لكنه احتمال متناهٍ في الضآلة بحيث يكاد يكون صفراً بالمئة.
• لو أجريت دراسة علمية ووصلت إلى نتائج احتمال صحتها خمسة وتسعون بالمئة، واحتمال أن تكون نتائجها وليدة الصدفة خمسة بالمئة، فإن التفكير العلمي السليم الذي لا يختلف عليه عالمان ولا عاقلان، هو اعتبار ما احتماله خمسة وتسعون بالمئة أو أكثر هو الصواب، واهمال الاحتمال النقيض الذي لا يبلغ خمسة بالمئة، فنبني على ما غلب على ظننا أنه الصواب، فنصنع بمقتضاه دواء جديداً، ولا نعتبر وصف الطبيب له ليعالج به مريضاً ما خطأً طبيباً، حتى لو نتج عن ذلك ضرر للمريض.
• نحن المؤمنين أن لنا خالقاً خلقنا عن قصد وتعمد وعلم وقدرة لا متناهية على الإبداع، نحن هم العلميون الذين يتبنون ما احتمال صحته هو الأغلب.. أما الذين يتبنون ما احتمال صحته ضئيل جداً لمجرد أن العقل الإنساني قادر على تخيله، فهم الخرافيون اللاعلميون.
ويتبع>>>>>>: سيكلوجية الإيمان والكفر7
واقرأ أيضا:
القرآن يتحدى / توصيات مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب