العلاج النفساني والتأثير المُمَوِّه (الوهمي)
هناك مقولة رائعة للروائي العالمي روديارد كبلنك Rudyard Kipling مفادها: الكلمات، بطبيعة الحال، أقوى دواء يستخدمه الإنسان. هذه المقولة التي عمرها أكثر من مئة عام صداها يمتد بطبيعة الحال إلى العلاج النفساني الذي هو أكثر العلاجات التي يطلبها الناس عند مراجعة مراكز الصحة النفسانية، والسؤال الذي يطرح نفسه دوماً هل العلاج النفساني هو مجرد علاج وهمي حاله حال العقاقير الوهمية أو المُموِّه Placebo.
العلاج المموه هو علاج دوائي خامل يتم استخدامه بسبب تأثيره غير المعرف أو النفساني أو الفسيولوجي. يتم تطبيق هذا التعريف ليس على العقاقير حيث يتم استعمال مصطلح عقَّار مموه أو عقّار وهمي، وإنما على مختلف العلاجات الطبية ومنها العلاج الكلامي الذي يتم استعماله ليس فقط لعلاج الاضطرابات النفسانية، وعند ذاك يتم استعمال مصطلح علاج بالمموه Placebo Treatment . المصطلح الآخر الذي يتم استعماله في هذا السياق هو التأثير التمويهي (الوهمي) Placebo Effect وما يعنيه ذلك بأن ما يتم استعماله ليس خالياً من كل تأثير، ولكن تأثيره على المراجع لا علاقة له بتأثير العقار أو العلاج أصلاً.
العقار المموه هو أكثر العقاقير استعمالا عالمياً وحين نتحدث عن عقار أو دواء وهمي فالتعريف يمتد إلى مختلف أنواع العلاجات التي يتم تقديمها عن طريق وصفة طبية أو مواد كيمائية يتم الحصول عليها في جميع المتاجر1. من العلاجات المموهة الشائعة الاستعمال رذاذ الأنف، إبر الوخز الصينية2، الكريمات الجلدية بأنواعها، خليط الفيتامينات، التمارين الرياضية3، مشروبات، العلاج الموسيقي وغير ذلك من الذي يصعب تعداده. يتم استخدام العلاجات المموهة في مختلف المشاكل الطبية والنفسانية مثل الألم المزمن4، الصداع والإشارة إليه بصداع الشقيقة، اضطرابات النوم، رفع المعنويات، علاج اضطراب الكرب التالي للرضح Post Traumatic Stress Disorder، القلق والاكتئاب وغير ذلك. الحقيقة كذلك يمكن القول بأن كل علاج يتم تقديمه يحتوي على تأثير مموه5 إلى حد ما ولذلك ترى استجابة مراجع لعلاج ما يختلف عن استجابة مراجع آخر يعاني من نفس الأعراض. كذلك هناك عامل آخر لا يمكن غض النظر عنه وهو أن تأثير العلاج يعتمد على من يصف العقار حيث ترى أن تأثير عقار على مراجع يختلف حين يستلم وصفته الطبية من طبيب دون آخر.
العلاج النفساني
العلاج النفساني بمختلف أنواعه ليس بعلاج استثنائي ولذلك فإن تأثيره التمويهي لا يختلف كثيراً عن مختلف العلاجات الطبية. مراجعة العلاجات النفسانية في أدبيات التحليل النفساني والتي معظمها تستند على وصف حالات فردية هي علاجات تأثيرها وهمي ويمكن وصفها بعلاجات تمويهية. هناك أيضاً علاج بالتنويم المغناطيسي وفي العصر الحديث يتصدر علاج إزالة حساسية وإعادة معالجة حركات العين السريعةEye Movement Desensitization and Reprocessing EMNDR قائمة العلاجات النفسانية الوهمية ويتم تصنيفه بتقنية علاجية زائفة لا تختلف كثيرا عن علاج التنويم المغناطيسي7,8. لكن ذلك لا يعني أن جميع العلاجات النفسانية هي علاجات تأثيرها وهمي أو تمويهي وخاصة في علاج الاكتئاب6 وتعميم مصطلح العلاج الوهمي على كل ما يتم تقديمه في العلاج النفساني مقولة لا تخلو من الغلو.
القاعدة العامة في تقييم أي علاج يتم عن طريق تقديم العلاج تحت الدراسة إلى مجموعة من المراجعين ومقارنة ذلك بتقديم علاج مموه (تمويهي أو وهمي) إلى مجموعة أخرى من المراجعين يعانون من نفس الأعراض والآفة المرضية. لكي تكون الدراسة خالية من أي تحيز فيجب ألا يعلم من يقدم العلاج أو يستلمه إن كان ما يتم تقديمه فعالا أو وهمياً. هذا ما نسميه دراسة مزدوجة التعمية منضبطة بالمُمَوِّه Double Blind Placebo Controlled Study.
مثل هذه الدراسة شائعة الإجراء جداً وهي الطريق الوحيد لتقييم جميع العقاقير. هذه الدراسات معدومة في العلاجات النفسانية حيث لا يتم تعمية المعالج وما يتم تقديمه بدلا من عقار وهمي دعم عام لمجموعة تسمى المجموعة الداعمة غير المُصَممة. هذه الدراسات تستنج دوماً بأن حجم تأثير العلاج الفعال الذي يتم تقديمه أفضل قليلا من العلاج الذي يتم تقديمه للمجموعة الدائمة9.
هناك تقارب تجريبي بين العلاج المموه والعلاج النفساني ويشترك الاثنان بما يلي:
١- توقعات المراجع من خلال تعليمات شفهية يتم تقديمها من قبل المعالج.
٢- التحالف العلاجي بين المراجع ومعالجه.
العاملان أعلاه هما أهم مكونات العلاج النفساني سواء كان سلوكيا أو معرفياً أو تحليلياً. كذلك يفسر ذلك العدد الهائل لأنواع العلاج النفساني التي يتجاور تعدادها خمسمائة علاج وهي أضعاف ما هو متوفر من عقاقير لعلاج لمختلف الاضطرابات الطبنفسانية.
ولكن رغم كل ذلك فإن للعلاج النفساني دوره الحيوي في علاج الاضطرابات النفسانية المختلفة وليس من الإنصاف استعمال مفهوم العلاج الوهمي على جميع ما يتم تقديمه في الممارسة المهنية من علاج كلامي ليس فقط في مراكز الطب النفساني وإنما في مختلف الفروع الطبية والجراحية. في نفس الوقت ليس من الإنصاف القول بأن العلاج النفساني محصن ضد مفهوم العلاج المموه.
وفي النهاية نعود إلى مقدمة المقال إن الكلمات أقوى دواء يستخدمه الإنسان في كافة مجالات الحياة وليس فقط في المجال الطبي.
مصادر:
1- Darragh M, Yow B, Kieser A, Booth RJ, Kydd RR, Consedine NS. A take- home placebo treatment can reduce stress, anxiety and symptoms of depression in a non- patient population. Australian and New Zealand Journal of Psychiatry.
2- Takakura N, Takayama M, Kawase A, Kaptchuk TJ, Yajima H. Double blinding with a new placebo needle: a further validation study. Acupuncture in Medicine. 2010;28(3):144– 148.
3- Crum AJ, Langer EJ. Mind- set matters: Exercise and the placebo effect. Psychological Science. 2007;18(2):165– 171.
4- Colloca L, Lopiano L, Lanotte M, Benedetti F. Overt versus covert treatment for pain, anxiety, and Parkinson’s disease. Lancet Neurology. 2004;3(11):679– 684.
5- Gaab J, Kossowsky J, Ehlert U, Locher C. Effects and components of placebos with a psychological treatment rationale— Three randomized- controlled studies. Scientific Reports.2019;9(1):1421.
6- Cuijpers P, Karyotaki E, Reijnders M, Ebert DD. Was Eysenck right after all? A reassessment of the effects of psychotherapy for adult depression. Epidemiology & Psychiatric Sciences.2019;28(1):21–30.
7- Herbert JD, Lilienfeld SO, Lohr JM, et al. Science and pseudoscience in the development of eye movement desensitization and reprocessing: Implications for clinical psychology. Clinical Psychology Review. 2000; 20:945– 971.
واقرأ أيضا:
الاستياء الداكن والقضية الفلسطينية / المستحضرات الطبيعية وعلاج الاضطرابات الطبنفسانية