التوحد أو الذاتوية مفهوم وتشخيص طبنفساني يثير الجدل هذه الأيام ولا يخلو من الارتباك في تعريفه سريرياً واجتماعياً. يمكن القول بأن الذاتوية حالة نماء عصبي غير متجانسة ومعرفة سلوكياً تتميز بتواصل اجتماعي غير نمطي يظهر في وقت مبكر، واهتمامات، وسلوكيات مقيدة، ومتكررة. الأسس المعرفية للتوحد تنطوي على صعوبات في العمليات الاجتماعية (والعقلنة) والأداء التنفيذي، ولكن يصاحب ذلك قوة معرفية في الانتباه إلى التفاصيل والتفكير المستند على القواعد والتنظيم. جميع هذه الميزات مصدرها عوامل بيولوجية جزيئية تشمل الجينات وعوامل بيئية تلعب دورها في التأثير على الجينات مثل الغدد الصم العصبية المناعية التي تؤثر على تشابك الخلايا العصبية (العصبون) ونماء الدماغ عموماً في الإنسان المصاب بالذاتوية.
تشخيص الذاتوية (التوحد) عموماً يستند على ما يلي:
١- ظهور سلوكيات اجتماعية غير نمطية من عمر مبكر في التواصل الاجتماعي والعاطفي، التواصل والتفاهم غير اللفظي وتطوير العلاقات الاجتماعية النموذجية والحفاظ عليها.
٢- سلوكيات واهتمامات مقيدة ومتكررة ويشمل ذلك التزام خالي من المرونة بالروتين، وطقوس واهتمامات ثابتة غير قابلة للتغيير.
٣- حساسية حسية مميزة سواء كانت بصرية أو سمعية أو جسدية.
لكي يتم التشخيص الصحيح فلا بد من العثور على مجموعات الأعراض الثلاث ودون ذلك يتم استعمال سمات ذاتوية بدلا من الذاتوية. كان التوحد في الماضي حالة طبنفسانية نادرة التشخيص أما هذه الأيام فيقدر انتشاره بما لا يقل عن 1% من السكان وانتشاره في الذكور ثلاثة أضعاف الإناث.
رغم أن التعريف الحالي للذاتوية يشمل مجموعة غير متجانسة من الأفراد يتشاركون بتواصل اجتماعي غير نمطي وسلوكيات واهتمامات مقيدة ومتكررة، لكنهم في نفس الوقت يختلفون في مقدرتهم اللغوية، القدرة المعرفية، إصابتهم باضطرابات عصبية نمائية أخرى، ومسار تطورهم العصبي.1 يمكن القول بأن السمات الذاتوية عموماً متوزعة بين السكان بصورة مستمرة، ولكن التشخيص السريري للحالة لا يمكن الوصول إليه بدون وجود ضعف وظيفي كبير بسبب هذه السمات. تكمن مشكلة التشخيص بأن تعريف قوة الضعف الوظيفي يختلف من مراجع لآخر ومن طبيب نفساني لآخر. رغم قوة العامل الوراثي (64-91%)1 ولكن هناك عوامل مسببة متنوعة وكل ذلك يفسر عدم التجانس الكبير عبر النمط الظاهر والبيولوجيا العصبية وراء الذاتوية. كذلك يعاني المصابون الذاتوية من اضطرابات عصبية نمائية أخرى مثل عجز الانتباه وفرط الحركة بالإضافة إلى اضطرابات طبنفسانية أخرى مثل القلق وذلك بدوره يؤثر على التشخيص والمقدرة الوظيفية.
لا يوجد علاج بالعقاقير للذاتوية ولا بالتغذية ونماذج التدخل والدعم الحالية هي سلوكية وتعليمية مع التركيز على تعزيز إمكانيات المصاب الذاتوية تعليميا والحد من العوائق التي تمنع التكيف بيئيا.
نماذج الذاتوية
تمت دراسة العديد من النماذج المعرفية2 لتفسير التوحد منذ أكثر من نصف قرن من الزمان لتفسير الأعراض السلوكية للتوحد والعلاقة بين السلوكيات ودوائر الدماغ المختلفة، ولكن إلى يومنا هذا لا توجد نظرية واحدة تفسر الذاتوية بمفردها.
نموذج العجز
كانت النظريات الأولى تاريخياً لتفسير الذاتوية تدعى نماذج العجز Deficit Models والتي ترتكز على ضعف العقل وانخفاض التوجه والاندفاع الاجتماعي في السنوات المبكرة جداً ويصاحب ذلك خلل وظيفي تنفيذي يفسر صعوبة التواصل الاجتماعي3.
تكمن الصعوبة المعرفية الاجتماعية الأولية في الذاتوية في التعقل البديهي وهي معرفة ما يفكر أو يشعر به غيرهم من البشر، ويتفاقم ذلك بسبب تعقد التواصل الاجتماعي مع الآخرين غير المصابين بالذاتوية والذين لا يفهمون طبيعة المصاب بها. يسمى هذا التعقيد في التواصل مع الآخرين بمشكلة التعاطف المزدوج. الحقيقة الثانية المتفق عليها هي أن انخفاض التوجه صوب المحفزات الاجتماعية لا يوجد منذ الولادة ولكن من المحتمل ظهوره في الأشهر القليلة الأولى مما يعكس انحرافا عن التطور التنموي النموذجي للرضيع. هذا الانحراف قد يكون عملية تنموية بديلة وقابلة للتكيف مع بداية غير طبيعية لتخصص الانتباه مصدره تغيرات عصبية بيولوجية. ثالثا يجب الانتباه إلى أن الاندفاع غير النمطي للمصاب بالذاتوية لا يقتصر فقط على المواقف الاجتماعية ولا يوجد في جميع المصابين بالمرض. الحقيقة الرابعة هي أن الخلل الوظيفي التنفيذي لا يرتبط مباشرة بالأنماط الظاهريّة السلوكية للتوحد ولا يقتصر فقط على التوحد وإنما كثير الملاحظة في في الاضطرابات النمائية الأخرى.
نموذج معالجة المعلومات
بدلا من تفسير مظاهر التوحد بنظرية عجز يمكن استيعابها بنموذج آخر4 وهو نموذج الطريقة المختلفة أو البديلة لمعالجة المعلومات Information Processing كما يلي:
١- نمط انتباه وإدراك حسي ومعرفي متحيز نحو تفاصيل محدودة بدلا من تفاصيل عامة، ورغم أن ذلك خلل وظيفي تنفيذي، ولكنه في نفس الوقت يعكس قوة معرفية.
٢- صعوبات في دمج المعلومات المختلفة وتركيز الانتباه على اهتمامات محددة وعدم التركيز على ما هو خارج نفق انتباه الفرد.
٣- التنظيم المعرفي ويعني ذلك الانخراط في سياقات منطقية قائمة على القواعد ويسهل التنبؤ بها.
٤- الاعتماد على ثقل المعلومات الحسية في تحديث التمثيل البيئي الاجتماعي في الدماغ.
تمت دراسة هذه المميزات المعرفية للمصابين الذاتوية (التوحد) مع استعمال تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، ولكن نتائج الدراسات غير ثابتة وغير متكررة وتشمل تغيرات وظيفية في مناطق القشرة المخية وتحت المخية. لكن هناك إجماعا في الدراسات على ما يلي:
١- المظاهر الاجتماعية في المصابين الذاتوية بمقارنة بغير المصابين به مصدره خلل وظيفي وتشريحي في الدماغ الاجتماعي الذي يشمل التلم الصدغي الخلفي العلوي، الوصلة الصدغية الجدارية، قشرة الفص الجبهي الإنسي ،منطقة الوجه المغزلي، التلفيف الجبهي السفلي، اللوزة، الجزيرة، والقشرة الحزامية.
٢- نظام المكافآت في الدماغ غير نمطي في المصابين بالذاتوية مقارنة بغيرهم ويتميز بانخفاض المكافأة الاجتماعية وغير الاجتماعية، ولكن زيادة المكافأة المرتبطة فقط بالاهتمامات الخاصة بهم.
٣- تغير شبكات الانتباه المختلفة في النصف الأمامي من القشرة المخية مقارنة بغيرهم.
٤- تكافؤ سلبي غير نمطي Atypical Negative Valence في منطقة اللوزة والجهاز الحوفي مما يفسر إصابتهم باضطرابات نفسانية أخرى مثل القلق.
الجينات المرتبطة بالذاتوية متعددة والعديد منها يرتبط أيضاً بجينات الفصام واضطرابات المزاج، واضطراب عجز الانتباه وفرط الحركة. لكن ما هو مثير للانتباه هو أن الجينات المرتبطة بالذكاء العالي موجودة أيضاً في جينات التوحد غير النموذجي والمعروف سابقاً باضطراب أسبرجر5.
مصادر :
1.Tick B, Bolton P, Happé F, Rutter M, Rijsdijk F. Heritability of autism spectrum disorders: a meta-analysis of twin studies. J Child Psychol Psychiatry 2016; 57(5): 585–595.
2.Fletcher-Watson S, Happé F. Autism: A New Introduction to Psychological Theory and Current Debate. Routledge, 2019.
6.Shultz S, Klin A, Jones W. Neonatal transitions in social behavior and their implications
3.Clements CC, Zoltowski AR, Yankowitz LD et al. Evaluation of the social motivation hypothesis of autism: a systematic review and meta-analysis. JAMA Psychiatry 2018; 75(8): 797–808.
4.Belmonte MK, Allen G, Beckel-Mitchener A et al. Autism and abnormal development of brain connectivity. J Neurosci 2004; 24(42): 9228–9231.
5.Grove J, Ripke S, Als TD et al. Identification of common genetic risk variants for autism spectrum disorder. Nat Genet 2019; 51(3): 431–444.
واقرأ أيضا:
الاستياء الداكن والقضية الفلسطينية / المستحضرات الطبيعية وعلاج الاضطرابات الطبنفسانية