مقدمة:
ربما لم يحظ موضوع الثقة بالاهتمام الكافي في الثقافة العربية والدراسات العلمية، وكان الناس – ومازالو- يثقون أو لا يثقون بناءا على حدس داخلي أو مشاعر إيجابية أو سلبية تجاه أفراد أو مجموعات أو مؤسسات أو هيئات أو قيادات أو وعود مثل "برقبتي"، "كلمة شرف"، "وحياة أبويا"، "ورحمة أمي"، "والعيش والملح اللي بيننا"، وربما قلة من الناس يعملون العقل والفكر في ثقتهم أو عدم ثقتهم فيما يعرض عليهم. وكانت الثقة في الماضي تعتمد على صفات أخلاقية لدى الفرد تضمنها سلطة الأسرة أو العائلة أو القبيلة أو المجتمع، وكان يقال "أن الرجل بكلمته" وأن "الشخص مربوط من لسانه"، ومن كان يخالف هذا الالتزام الأخلاقي والعرفي والاجتماعي كان يواجه بالاستهجان وربما بالنبذ والاحتقار الاجتماعي، وقد كان هذا مناسبا للبيئات البسيطة التي تمتلك المعرفة لأفرادها والتأثير فيهم. ولما كانت الثقة هي أحد أهم روافع النجاح والتنمية على المستوى الفردي والجماعي، صدر في الآونة الأخير كتابان مهمان لعلهما يوقظان وعينا لمسائل الثقة ومزاياها وعيوبها وتشوهاتها وخداعاتها.. وهل نعط الآخرين ثقة مطلقة، أم ثقة نسبية؟، والكتاب الأول هو : "الثقة : الفضائل الاجتماعية والاذدهار الاقتصادي" للكاتب والفيلسوف الشهير "فرانسيس فوكوياما"، والكتاب الثاني هو "سرعة الثقة .. الشيء الذي يغير كل شيء" لخبير التنمية البشرية العالمي "ستيفين كوفي". والكتابان يناقشان موضوعات الثقة وإشكالياتها وآثارها وعوامل انهيارها وطرق بنائها خاصة في المجتمعات الغربية. والثقة ينبني عليها خلق صورة معينة للفرد تؤثر في تقييم الناس له وبالتالي تؤثر في نجاحه أو فشله وتؤثر في تقديره والتعامل معه، وأصبحت هناك دراسات حديثة لبناء الثقة في مشروعات ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وزاد الاحتياج للثقة مع تطور الصناعات الإلكترونية وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على مساحات هائلة من وعي البشر، وقدرة المؤثرين الاجتماعيين على السيطرة على توجهات جموع غفيرة من البشر ليس بالثقة الحقيقية المبنية على المصداقية والتتثبت ولكن بواسطة الإبهار والإلحاح على الغرائز والمشاعر والاحتياجات، ومن هنا أصبح الوعي البشري هشا وملوثا ومشوها في مساحات كثيرة منه، مما شكل ما أسماه علماء النفس والاجتماع "مجتمع المخاطر" أو "مجتمع اللايقين" أو "مجتمع اللاأمان"، أو "مجتمع الشائعات المنمقة" أو "مجتمع الاحتيال"، وهو ماينذر بمخاطر شديدة على البشرية لو لم تستطع استعادة الثقة الحقيقية في جوانب حياتها أو على الأقل في غالبيتها .
ما هي الثقة؟
الثقة هي صورة ذهنية إيجابية، وانطباعات جيدة يحملها الشخص عن نفسه أو عن أشخاص آخرين أو عن مؤسسة أو حكومة، سواء كانت هذه الصورة الذهنية صحيحة أم خاطئة.
وجوهر الثقة الصدق والأمانة، ولذلك اكتسب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى قبل بعثته - وصف الصادق الأمين، وكان هذا مصدر الثقة الأساسي لدى من آمنوا به . وقد جاء في "معجم التعريفات" للجرجاني أن: "الثقـة: هي التي يعتمد عليها في الأقوال والأفعال"، وهذا التعريف للجرجاني غاية في الأهمية لأنه يربط الثقة بالأقوال والأفعال معا، وهذا تقييد مهم لأن هناك من يخدع الناس بالقول المعسول والوعود الزائفة فيقعون في شراك الثقة به، ثم يكتشفون بعد زمن - طال أوقصر- زيف أقواله ووعوده من خلال مراقبة أفعاله، وهذا شائع جدا في الشخصيات العامة التي تتحسس مشاعر الجماهير وتداعب أمنياتها وأحلامها فتقول لها ماتحب أن تسمعه دون التزام بتحقيق فعلي .
وجاء في "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس: "وثَّقت الشيء: أحكمته"، وهذا التعريف يعني الثبات والثقة والمصداقية والتمكن .
مستويات الثقة:
أجرى "آلان بيرفيت" دراسة عن قيم المجتمع الرأسمالي الحديث، وخلص إلى أن أبرز سمة ينبغي أن يتسم بها المجتمع الحديث هي الثقـة، ويقصد بها:
1 - ثقة المرء بنفسه.
2 - وثقته في الآخرين.
3 - وثقته في المؤسسات.
ولا يمكن الاستغناء عن أي مستوى من مستويات الثقة الثلاثة، فكل واحد منها شرط ضروري لوجود الآخر، وفي حال الاستغناء عن أي ركن فإن الركنين الآخرين سيتصدعان أو ينهاران.
ثقة الشخص بنفسه:
الثقة بالنفس هي عبارة عن إحساس الشخص بقيمة نفسه بين من يحيط به، فتترجم هذه الثقة في كل سلوكياته ، وتجعله يتصرف بشكل طبيعي من غير رهبة أو قلق ، وتكون الثقة نابعة من ذاته لا شأن للآخرين بها، وهي عكس انعدام الثقة التي تجعل الفرد يتصرف وكأنه مراقب ممن يحيطون به، وتصبح تصرفاته وحركاته وآراءه مخالفة لطبيعته، ويكون القلق حليفه الأول في كل اتخاذ قرار أو اجتماع .
وهناك بعض القواعد لاكتساب وتنمية الثقة بالنفس وهي:
• معرفة الإنسان بملكاته وقدراته ونقاط قوته.
• معرفة الإنسان لأهدافه بوضوح.
• تذكره لنجاحاته وإنجازاته في الحياة.
• تقبله لتجارب الفشل واعتبارها مصادر للخبرة والنضوج.
• الاعتناء بالمظهر الخارجي، فالظهور بمظهر أنيق يعطي الشخص دفعة قوية وقدرة على التعامل بشكل أفضل مع الناس.
• الاهتمام بوضعية الجسد، أو ما يطلق عليه لغة الجسد، بحيث يجلس الشخص جلسة مستقيمة، مرفوع الرأس، مع القدرة على التواصل البصري مع الآخرين .
• المشية الواثقة السريعة نسبيا التي توحي بالحيوية والطموح والرغبة في تحقيق إنجازات كثيرة في وقت قصير، أو الوقوف منتصب القامة .
• الدعم الذاتي للنفس، وتلقي الدعم من الآخرين.
• الجلوس في الصف الأول عند حضور الندوات أو المحاضرات، وهذا يعطي فرصة للحوار والمناقشة والتأثير في الحضور.
• التحدث بوضوح وبصوت مسموع ونبرات واضحة وبعبارات مؤكدة.
• البعد عن الأشخاص السلبيين والمحبطين وكثيري التثبيط.
• البعد عن الأفكار السلبية.
مظاهر الثقة بالنفس وثمارها:
المظاهر: الثبات الانفعالي والتفاؤل الإيجابي، والاطمئنان بالنفس، والسيطرة على المواقف الحياتية، والمبادرة والإقدام، والإحساس بالأمان.
الثمار: تطوير الذات، والقدرة على حل المشكلات، وسرعة اتخاذ القرار، والعزيمة والإصرار، والإنتاجية، والإبداع، والنجاح في العمل والعلاقات، والسعادة، والقدرة على الأداء المتقن للأعمال.
معوقات الثقة بالنفس:
الخوف من الفشل، عدم القدرة على رؤية النجاحات السابقة أو التهوين من أمر هذه النجاحات، تكرار العبارات والإيحاءات السلبية عن النفس، الإهمال، وإلقاء اللائمة على الآخرين وانخفاض تقدير الذات، ومخالطة الفاشلين والمحبطين والمهزومين والمتشائمين .
ويمكن تصنيف الثقة بالنفس إلى ثلاث أنواع كما يأتي:
1 . الثقة المطلقة بالنفس: هي ثقة الإنسان بنفسه استناداً إلى مقومات ومبررات قوية جداً تمنع أي ظرف من التأثير فيها أو إضعافها، فيواجه صاحبها مختلف الصعوبات دون أن يقلل ذلك من ثقته بنفسه، وحتى إن فشل في تحقيق أمر ما فإنَّه يعاود المحاولة لأنَّه مؤمن باستطاعته.
2 . الثقة النسبية بالنفس: تختلف هنا ثقة الإنسان بنفسه بحسب الظروف والمواقف والمكان والزمان والأشخاص المحيطين أيضاً، فترتفع مرة وتنخفض مرة أخرى.
3 . فرط الثقة بالنفس: وهنا تتضخم ذات الشخص، ويشعر أنه قادر على فعل المعجزات، ويتجاوز حدود الأسباب والمسببات، ويشعر أنه - وحده – قادر على أي إنجاز، وأنه لا يحتاج المساعدة أو المشورة من أحد، وربما يتباهى بنفسه وبمآثره وإنجازاته على الناس، بينما يحتقرهم ويتعالى عليهم وتمتلئ نفسه بالكبر والخيلاء، ويستبد برأيه في كل الأمور، ويعتبر كل من ينصحه أنه متجاوز للحدود، ويعتبر من يعارضه أنه خائن أو مارق، ويحتاج هذا الشخص لمن يمدحونه ليل نهار ويتغزلون في حكمته وعبقريته، ولو لم يجد من يفعل ذلك يمدح هو نفسه، ويصل في النهاية إلى حالة من الكبر والنرجسية وخداع الذات وخداع الآخرين، وادعاء إنجازات لم يفعلها، وتحويل فشله إلى نجاحات برّاقة كاذبة . وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التكبر في حديثه الشريف "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، وأمرنا الله عز وجل بالتواضع والابتعاد عن التكبر والغرور في قوله تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً).
ويتبع >>>>: الثقة.. وصناعة الحياة2
واقرأ أيضا:
جائحة خطاب الكراهية / الدعم النفسي للأشخاص في زمن الأوبئة والحروب3