المسافة بين بيتي وبيت أمي تستغرق ساعة بالمواصلات العامة، هذه هي الحجة التي أرددها تبريرًا لعدم زيارتي لها بانتظام.
وفي السنوات الأخيرة أصيبت أمي بضعف في السمع، وأصبح الحديث بالتليفون يرهقها ويرهقني – هذه هي الحجة الثانية – ولذلك اكتفي بسؤال أختي التي تعيش معها عن أحوالهم عدة مرات يومية.
لكن الحجج قد تقنع الآخرين بما فيهم أمي نفسها، أما أنا فأظل أشعر بالذنب والتقصير، وأنتظر عقاب الله، ويأتيني صوت المقرئ عبر إذاعة القرآن الكريم؛ ليوقظني من نومي في ساعات الصباح الأولى يقول "حملته أمه وهنًا على وهن" فأنوي ألا ينتهي النهار دون أن أزور أمي، ولا أتذكر نيتي إلا في صباح اليوم التالي.
العلاقة بيني وبين أمي شديدة التعقيد، ليست ببساطة لأنني ابنة سيئة لا تعرف واجباتها، فأنا لم أكن كذلك على الإطلاق مع أبي -رحمه الله- بل على العكس كانت تجمعنا صداقة نادرًا ما تتحقق بين الأب وابنته.
أما أمي فقد قررت هي منذ فترة طويلة بالتحديد منذ 21 سنة أن تتفرغ تمامًا لأخي الذي أصابه مرض نفسي في سن المراهقة، لا شفاء منه، كادت أمي أن تنسى أسماءنا بعدها، لأنها قررت أن توجه كل طاقتها لرعاية أخي، ورعاية المريض النفسي تختلف تمامًا عن رعاية أي مريض آخر، لأنه يسحب كل طاقات من يرعاه النفسية والعاطفية وغالبًا ما ينتقل إليه اكتئابه واضطرابه وتوتره، وهذا ما حدث لأمي بالفعل، نجحت نسبيًا في رعاية أخي، حيث استطاعت بإصرار عجيب ودأب لا حد له أن تدفعه للحصول على شهادة جامعية، كانت تجلس بجواره ساعات طوال تقرأ له وتعيد على مسامعه المعلومات، وتزور الطبيب معه بانتظام وتتدخل في تعديل جرعات الدواء، وتسيطر على أزمات الربيع والخريف التي تصيبه كل عام وتسهر معه الليالي المتواصلة.
لكنها وهي تفعل هذا كله وأكثر، فقدت صحتها وفقدت توازنها النفسي وفقدتنا. كانت تحتاج لأن ندعمها في قضية حياتها، وكنا نحتاج لأن تعطينا ولو جزءا من الألف من اهتمامها به لتساندنا في صراعتنا الطبيعية مع الحياة، كنا نواجهها باحتياجنا، فكانت ترد أنتم أقوياء وأسوياء وتستطيعون الحياة مستقلين، وكانت تواجهنا باحتياجها فنقول: أنت اخترت أن تضيعي عمرك كله من أجل قضية خاسرة، ما ذنبنا نحن، لكننا بالطبع – أبي وأختي وأنا- نجتمع ونساند ونتحمل وقت الأزمات الشديدة، ونخرج منها منهكين نفسيًا وعصبيًا رغم تكرارها المنتظم ورغم أننا نعرف نهايتها، لكنها – أمي- كانت وما زالت تستقبل الإشارة من أخي كأنها تستقبلها للمرة الأولى، نفس الخوف القلق ثم الشكوى والبكاء والاستغاثة، فنتألم لألمها أكثر مما نتألم لمرض أخي الذي أصبح قضية قديمة جدًا بالنسبة لنا، وقضية دائمة التجدد بالنسبة لها.
وفي الأيام العادية التي يكون فيها أخي شبه طبيعي، لا تستطيع أمي أن تدير حوارًا مهما كان أهميته، تشرد وتصمت وتنتقل إلى موضوعها المفضل، أخي ومرضه ومستقبله ودائمًا ما تنهي الحوار بوصية لما بعد وفاتها فتصبح الزيارة أو المكالمة التليفونية حالة من الألم والتشاؤم مهما حاولت.
في السنوات الأخيرة أصيبت أمي بمرض يحتاج إلى متابعة من طبيب أمراض عصبية، واعتدت أن أذهب معها للطبيب واعتدت أيضا أن أذكره بحالتها النفسية السيئة وعلاقتها بمرض أخي، واعتاد أن يتجاهل ملحوظتي، لكنه في إحدى المرات قال لي – وهو يحاول ألا تفهم ما يقصده – أن علاقتها بمرض أخي تعطيها دافعًا لكي تقاوم الأمراض وتستمر في الحياة من أجله، أي أنها تشعر بأن حياتها لها هدف.
هذه هي أمي.. وهذه هي حقيقة مشاعري المعقدة تجاهها.. الحب، والعطف، والألم، والتعاطف واللوم والغيظ والرغبة في القرب والهروب الدائم.
مشاعر لم أستطع التعامل معها أو السيطرة عليها أبدًا.
لكنني ومنذ حوالي شهر.. أزورها بشكل شبه يومي، وأتحمل المسافة وأترك عملي وأسرتي الصغيرة وبيتي وأظل بجوارها، لأنها مريضة جدَّا، وهي ترفض أن تأتي لتعيش معي؛ لأنها لا تريد أن تترك أخي مع زوجته وحده، وبالطبع لا يستطيع أخي أن يرعاها، بل إنه حتى لم يدرك بعد أنها مريضة، لأنها بمجرد أن تراه تحاول أن تبدو طبيعية حتى لا يصاب بالقلق.
اختفت الآن كل المشاعر المتناقضة، وبقي شعور واحد أنها أمي وأنها مريضة وأن يمنحني الله الفرصة الأخيرة؛ لكي أكفر عن كل ذنوبي تجاهها، لذلك أحاول أن أنجح في الاختبار، لا أنكر أنني أحيانًا أصاب بالدهشة من قسوتها علي وهي تطلب مني أن أهتم بأخي على حساب حياتي، ورقتها المتناهية وهي تتكلم مع زوجة أخي.
لكنه شعور بالدهشة فقط، ولم أترجمه إلى أي سلوك، وأتمنى أن تستمر هذه الحالة، وألا أفقد السيطرة على مشاعري وأبدأ رحلة الهرب -والشعور بالذنب – من جديد.
واقرأ أيضا:
هل التعليم العام لا يزال حياً؟ / الارتباط الأمومي والتعلق2